ساعة تعيد رسم الزّمن معكوسا..قراءة في كتاب ساعة تستور تسترجع الزمن

0

د.زهير بن يوسف

         الإصدار الجديد الذي نُقبل على تقديمه اليوم هو كتاب يهتم بمدينة تونسية يفوح منها شذى الزمن الأندلسي بمعالمه التاريخية ورموزه الجمالية وذاكرته الثقافية الحيّة في المكان والإنسان هي مدينة تستور بشمال غربي البلاد التونسية، اهتمامه بواحدة من أبرز علاماتها المعمارية والجمالية قلّما لفتت انتباه الدارسين إليها، إنها تلك الدرّة الأثرية التي ترصّع تاج حاضرة الموريسكيين الأثيلة بتونس، نعني ساعة الجامع الكبير الجِداريّة.

  1. الكوندي: المعنى والإٍرث:

صاحب الإصدار هو المهندس والباحث التونسي عبد الحليم الكوندي، قلت الأستاذ ولم أقل السيّد ببساطة حتى لا أقع في التكرار لأنّ الكوندي أو الكوندو نسبة مُعرّبة تعريبا صوتيا عن لفظ el condé القشتالية وتعني السيّد وقد أضيفت إليها ياء النسبة.

ـ من الناحية الإسامية، الكوندي لقبا عائليا لقبٌ:

* يرشح بالعراقة والتجذّر في الزمن الأندلسي سواء في تونس العاصمة أو في كل من تستور ومجاز الباب،

* وهو مثل غيره من أسماء العائلات التونسية ذات الأصول الأندلسية، وقد قام بجردها وضبط مواطنها بالبلاد التونسية أحمد الحمروني في كتابه “الموريسكيون الأندلسيون في تونس” ينوء بعبء التاريخ وثقل الزمن الأندلسي الهارب منذ قرار الطرد النهائي من جنوب إسبانيا الذي أصدره الملك فيليب الثالث بتاريخ 20 سبتمبر 1609 في حق رعاياه من ذوي الأصول العربية.

ـ وللكوندي رمزية كبرى ليس لدى أهالي تستور وحدهم وإنما في الذاكرة الوطنية أيضا وتخصيصا لدى النخب العالمة في الفترة الحديثة، رمزية لا تدانيها أو تضاهيها من مواطنيه سوى رمزية الشيخ إبراهيم الرياحي(ت 1850) الأب الروحي للحركة الإصلاحية التونسية وسليمان مصطفى زبيس( ت 2003) شيخ علماء الآثار التونسيين في التاريخ المعاصر، إنه أبو الحسن علي بن علي الكوندي الأندلسي (ت 1119/1708) الجد التاسع للمؤلف، ولعله جده الأعلى بالبلاد التونسية: ” عَلَمُ الأندلس”، مثلما قال عنه نجله وتلميذه محمد بن علي الأندلسي.

  • الجدّ المؤسس: علي بن علي الكوندي

ـ هو أحد كبار أعلام المذهب المالكي المتأخرين في الفقه والقراءات والنحو،

ـ وأحد كبار المصنّفين في الفترة الحديثة،

ـ وأشهر شيوخ الدرس،

ـ وأحد أشهر قدامى الأيمة الخطباء بالجامع الكبير بتستور.

تحتفظ له دار الكتب الوطنية بتونس بما لا يقل عن سبع مخطوطات من مجموع اثني عشر مؤلفا أشهرها:

  • اللؤلؤ والمرجان في أوقاف القرآن، ط1، دار ابن حزم، بيروت، 2019.
  • قلائد الدُّرر بشرح المختصر، مخطوط دار الكتب الوطنية بتونس، 12180- 12185

ولذلك فلا غرابة لزائر مقبرة تستور وتحديدا للجناح الموسوم بـ “جبّانة القُضية” أي تُربة القُضاة أن يلاحظ مدى التبجيل والتقدير اللذين ظلت تحظى بهما هذه الشخصية العلمية وتحولها إلى رأس مال رمزي بل ومفخرة للسكان والمكان وذلك من خلال العناية الموصولة بمقامه على مدى ثلاثة قرون توجت مؤخرا بأعمال الصيانة والترميم التى بادر بها الكوندي الحفيد وأنفذها.

وللكوندي حضور آخر في ذاكرة المصنفين التونسيين، وفي ذاكرة بيوتات مدينة تونس العريقة التي احتفظت بمكتباتها العائلية وذلك من خلال سي الهادي بن أحمد بن الطاهر الكوندي( 1912ـ 1982) والد المؤلف وحفيد العالم علي الكوندي من الدرجة الثامنة ومكتبته التي مكن حسن حسني عبد الوهاب( ت1968) من بعض محتوياتها النادرة على سبيل الإعارة، كما تشير إلى  ذلك بعض هوامش ” كتاب العمر في المصنقات والمؤلفين ” في الترجمة التي وضعها محمد العروسي المطوي وبشير البكوش لعلي الكوندي: المجلد الأول ص ص 828ـ 830.

  • الكوندي المؤلف

نحن مع أ. عبد الحليم الكوندى إزاء سليل ” دار علم ” بعبارة حسين خوجة في ذيل بشائر أهل الإيمان، من قديم الزمان” ليس هو الأول في سلسلتهم، وإذا كان من المهم أن نذكّر بأنّ المصنف خبير دولي وعضو هيئة التدريس بالمدرسة الوطنية للمهندسين بتونس، فلعل المقام يقتضي منّا أن نقول بالأساس إنّ السيد عبد الحليم الكوندي (من مواليد 1945) مهندس تونسي من أصول أندلسية دفعته غيرته على المعالم التاريخية في بلاده إلى التفكير في كيفية إرجاع عقارب ساعة تستور الجدارية إلى الدوران وترميمها على نفس المنوال الذي كانت عليه منذ سنة 1760، وهو التاريخ الذي يبدو أنها رُكّبت فيه بصومعة الجامع الكبير. إن لم تكن بالتأسيس راجعة إلى تاريخ سابق من المحتمل أن يكون متزامنا مع تأسيس الجامع الكبير الأول بحومة الأندلس وهو الجامع المعروف حاليا بجمع الرحيبة وصومعته سنة 1609. وعلى افتراض أنّ هذه الساعة الجدارية فريدة من نوعها بتستور.

  • عقارب الساعة تعود إلى الدوران

بذل الكوندي أقصى جهده لإيجاد حلّ لإعادة الحياة للساعة الجدارية مثلما كانت من قبل اقتناعا منه أنه لا يوجد أي عذر لبقائها مُعطلة على النحو الذي كانت عليه، وكأنه لم يرد لعقارب الزمن أن تتوقف في تستور فكان له ما أراد.

فقد قام عبد الحليم الكوندي من أجل مرمى طموحه هذا باتصالات لسنوات وبحث في المصنفات وأدى إلى مختلف المدن التي بها ساعات مماثلة عبر العالم على غرار براق Prague   العديد من الزيارات، وطلب تمويلات من عدد من السفارات إلى أن تمكن من إقامة شراكة مع السفارة الألمانية بتونس لتنظيم تظاهرة ثقافية لجمع التبرعات ونجح في 12 نوقمبر 2014 بالتعاون مع جمعية صيانة مدينة تستور وبمشاركة كل من النيابة الخصوصية لبلدية المكان ومعهد جوتة Goethe الألماني ضمن مشروع معمارنا تثمينا للتراث المعماري التونسي وبمساهمة من المجتمع المدني وتفاعل إيجابي من المعهد الوطني للتراث في إكمال أعمال الترميم وإعادة تشغيل هذه الساعة الرمز وإعادة عقاربها إلى الدوران.

  • L’ horloge de Testour remonte le temps: ملاحظات نقدية

  “ساعة تستور تسترجع الزمن”: كتاب من القطع المتوسط يقع في 269 ص صدر في طبعة أنيقة محلاة بالصور الوثائقية والرسومات الفرنسية في ماي 2015 عن الشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر بتونس ثم صدر معرّبا سنة 2016 تحت عنوان “ساعة تستور الأندلسية.. تدور” .                                                          .                                  

  والظاهر أنّ الكاتب إنما أراد لنصّه أن يكون متحررا من الضوابط الأكاديمية والإكراهات المنهجية ولذلك فإنه على ثراء المدونة التي اعتمدها واتساعها لن يُعنى كثيرا بالتوثيق ولاسيما البيبليوغرافي منه، التوثيق الإعلامي استثناءً وتحديدا في الفصل الموسوم بمعرض الصحف المكتوبة ص ص 199ـ 252، رغم تفطنه إلى أهمية ذلك في متن الكتاب ص 119 في البيبليوغرافيا التي حاول ضبطها بخصوص الإضافة العربية في مجال قياس الزمن.                                                                                                         

فقد رصد الكاتب في الفصول العشرة الأولى، أو ما سمّاه كذلك والواقع أنها مباحث وليست فصولا، وهي “فصول” تتفاوت طولا وقصرا، تستور المدينة جذورا، تاريخا، عمرانا ومعمارا، معالم وأعلاما ولكن بمنهجية لا تقوم على منطق الاستتباع قدر قيامها على منطق الانضمام إن لم نقل الاعتباط، رصدا ألح فيه أيما إلحاح على أخصّ ما تختص به المدينة إثنيا وثقافيا، وهو الطابع الموريسكي الأندلسي، وكان بودّنا لو تمّ توثيق ذلك بإحالات على الأعمال الجليلة التي قدمت في هذا الباب ومنها أعمال جورج مارسي وأحمد السعداوي وسليمان مصطفى زبيس على سبيل المثال لا على سبيل الحصر                              .    ليخلص في ما بقي من “الفصول” وعدّتها 14 فصلا وبالتحديد ص ص 97ـ 197 إلى الحديث عن قلب الكتاب والقطب الذي تدور عليه رحاه: ساعة صومعة الجامع الكبير، تلك التي قال فيها محمد المقداد الورتتاني(ت 1950)                             :                                                                  

عُج بتستورَ وذاك الجامعَ رُسِمت ساعتُه أعلى المنار

أبدعت فيها يمين الصانع   سيرُها يأتي يمينا لليسار

في هذه الفصول، وهي بدورها موغلة في التفاوت طولا وقصرا، حاول الباحث رصد مراحل مختلفة من تاريخ هذه الساعة والوقوف على خصوصياتها وأهميتها التاريخية والمعمارية والجمالية وذلك في سياقات مقارنة مع:

ـ نظيرتها الشمسية التي كانت تعمل بالتوازي معها وهي من نقش أحمد الحرّارسنة 1760.

ـ وشبيهاتها عبر العالم من الساعات التي تتميز بدورها عكس الدوران المعتاد( براغ، مونستار، فلورانسا، لاباز)

وقد كان من المستحسن لو وردت الفصول الثلاثة 13، 14 ، 15 عن قياس الزمن وإسهام العرب والغرب فيه وعن الساعات المائية والميكانيكية ص ص 113ـ 130 لصبغتها التأطيرية والتاريخية  قبل الفصول المشار إليها أعلاه.

كما كان من المستحسن لو أنّ التطرق إلى الساعة الشمسية أو المِزولة وأخواتها ص ص 76ـ 80 قد كان في سياق متصل مع التطرق إلى  ساعة ” الزمن المعكوس” لما بينهما من اتصال وتواصل.

ختاما يحتفي الكاتب بتفاصيل هذا الحدث المعماري والثقافي: إعادة تشغيل ساعة الجامع الكبير بتستور ومصالحة الذاكرة المحلية مع الزمن، مصالحة ترنو إلى إعادة كتابة تاريخ المكان على نسق دوران ساعته بعد تركيب عقاربها وتركيز صندوق وتجهيزات إلكترونية داخل الصومعة تسهر على تشغيلها إلكترونيا وتربطها بالأقمار الصناعية.

6. ساعة ” الزمن المعكوس”: الرمزية والدلالات

على امتداد أربعة فصول 16ـ 19 يعود الكوندي المهندس إلى الحضور بقوة بالتزامن مع الكوندي الباحث في تاريخ الأفكار، الباحث الذي يحاول أن يفهم كل الظواهر ويستقطب أبعادها، فيقدّم لنا هذه الساعة الفريدة من نوعها بدورانها على عكس الدوران المعتاد وترقيمها ترقيما معاكسا لاتجاه الترقيم المألوف واختلافها، رغم أنها ميكانيكية، عما يعرفه الناس في العالم، ويحاول أن يجيب عن السؤال الآتي:

 لماذا اختار الصانع أو الميكانيكي الموريسكي الأندلسي عكسية دوران العقارب؟

ـ أهي محاكاة لاتجاه دوران الشمس؟

ـ أم هي محاكاة لاتجاه الكتابة العربية وتيمن بها؟

ـ أم هي محاكاة لحركة النجوم والكواكب والمجرّات؟

ـ أم هي محاكاة لحركة تدفّق الدم في الدورة الدموية؟

ـ أم هي محاكاة لحركة الطواف بالكعبة؟

ـ أم هي محاكاة لاتجاه حركة حُلم العودة إلى الفردوس المفقود والتعبير عن رغبة يائسة في استرجاع الذاكرة والعودة بالزمن إلى لحظة ماضية؟ وبالتالي فهي تشير إلى الأندلس بتوقيت الأندلسيين على حد تعبير المؤلف؟

ـ أم هي عكسية دوران معاكسة لاتجاه ساعات الكنائس؟

ـ أم أنّ الاختيار هندسي محض؟

هل يمكن لكل هذه التقاطعات أن تكون على سبيل الصدفة؟

الأكيد أنك لا تغادر هذا الكتاب إلا وبك شوق إلى العودة إليه بالقراءة من جديد تماما مثل تستور التي لا تغادرك حين تغادرها إلا ويهيجك الشوق إلى لقياها ويضنيك الحنين.

تنبيه: أطلقت منذ حوالي سنتين ونصف مبادرة تسجيل ساعة تستور الأندلسية بقائمة التراث العالمي لليونسكو.

د. زهير بن يوسف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.