افتتاح مهرجان دڨة: في حضرة “24 عطر” تتلاشى رائحة الجائحة

0

سمفونية من الألوان والأصوات والروائح، تستقبلك على أعتاب دڨّة أو “تڨّة”، المدينة الصامدة في وجه الزمن والمناخ لتروي قصصا عن الحياة في الماضي، حالة من النيرفانا والانتشاء تتملّكك وأنت تلاحق همسات حجارة تخلّد آثار المارين من هنا.

ترانيم وحكايا لا تنضب، بل تنساب بلا حد كلّما أوغلت في المدينة الأثرية وتزداد تدفقا على إيقاع الموسيقى المنبعثة من المسرح الأثري بدقّة في “البروفا” التي سبقت عرض 24 عطر المبرمج في افتتاح مهرجان دڨّة الدولي.

توليفة مثيرة بين الثقافات والحضارات، آثار ضاربة في القدم فيها تعبق منها عطور النوميديين والقرطاجيين والرومانيين والهيلينيين، مدارج صامدة وأعمدة تتطلع إلى السماء وألحان تخال أنها منبعثة من عمق الأرض. 

في أرضية المكان أسرار كثيرة، حتى عجلات العربات التي كانت تقل النبلاء مازالت حاضرة هنا بوضوح، تقتفي أثرها وأنت تغادر نحو مسجد مبني على معبد وثني وسوق خلفه معبد “ماركور” الإله الحامي للتجار.

وفي الساحة التي تضم معبد “ماركور” وكانت قديما تسمّى ساحة السوق وفيما يعد سميت ساحة زهرة الرياح، وهي ساحة تحوي 3 دوائر تتوسّط بعضها البعض، كتب على محيطاتها أسماء الرياح حسب الاتجاهات.

وأنت منغمس في تفاصيل زهرة الرياح تداعب الرياح المتحررة من قيود المباني وجهك، تغازلك ويحتد منسوب الغزل كلّما مالت الشمس نحو مخدعها، خيوط من الضوء تصبغ الأثير بألوان نارية ويحمر وجه دڨّة ويعلن الليل ميلاد حلم جديد مداده الموسيقى.

الإنسانية بوصلة للفن.. 

فيما زهرة الليل تينع في أفق المدينة الأثرية، يرابط منظمو مهرجان دقّة والمتطوعون والأمنينون في الخارج وسلامة الجمهور نصب أعينهم، يتثبتون من حراراتهم ويهدونهم الكمامات ويهبونهم سائل التعقيم ويحرصون على التباعد بينهم وان حجبت الجائحة الابتسامة عل شفافهم بففعل ذلك الحاجز القماشي الذي فرضته فإنها ارتسمت في اعينهم وفي كلماتهم اللطيفة.

وخيوط الليل تراقص آثار دقة وتضفي مسحة من الشاعرية على مدارج المسرح الأثري، يعتلي الموسيقيون والمغنون الركح وتزين تونس الشاشة في الخلف وتظهر عبارة ” كلنا الحامة”، هي الإنسانية حينما تكون بوصلة للفن، وهو الفن حينما يحمل بين ثناياه هواجس الإنسانية.

في دقة المدينة الشمالية، تستشعر معركة الحامة المدينة الجنوبية ضد الفيروس اللعين، ومرة أخرى يكون الفن عنوانا للوحدة التي بعثرتها السياسة والحسابات الضيقة التي تجعل من الانسان آخر الاهتمامات.

وهلة من الصمت، وقف فيها الموسيقيون والمغنون والجمهور وسكنت الريح لتعلو صرخة الإنسانية في الأرجاء قبل أن تعبق عطور تونس على الركح وتطمس رائحة الجائحة، هو عناق الموسيقى والآثار يعزلك عن الواقع  ويحيطك بهالة من النشوة.

سفر بين العطور..

رائحة التراب تفوح في أرجاء المسرح الأثري مستجيبة لغزل الريح التي أزعجت العازفين في بعض اللحظات لكنهم لم يلقوا بالا للأمر ونثروا عطور الحياة والفرح والشغف في الأثير، ونغمات البيانو تعلن بداية السفر في رحلة بين العطور، رحلة لا نهاية لها، يحاول صاحب فكرة العرض محمد علي كمون في كل مرة أن ينسج من الألحان سبلا جديدة.

وبين عرض زيّن ركح المسرح الأثري بقرطاج، وآخر فاحت فيه العطور في قاعة الأوبرا في مدينة الثقافة والعرض الذي وشّح المسرح الأثري بدقة بمسحة من الشاعرية، يضفي كمون روحا جديدة على كل عرض ويطرز التفاصيل بعطور حيّة أبدا لا تموت.

معزوفة موسيقية من تلحين محمّد علي كمّون لتأخذ الجمهور إلى وطن متخيّل دستوره التراث العتيق، تراث يحمل بين نغماته ستة عطور سرمدية،  ومن جبل زغوان انبعثت نوبة المالوف وفاحت رائحة زهرة “النسري” الأندلسية وحدّث صوت سيف التبيني بقصص عشق لا تموت، لتنبعث معزوفة “سيكافينريا” عنوانا لفصل الموسيقى الشاوية التي تزينت بأصوات مهدي ميموني وسارو بن شيخة،  التراث البدوي الذي تغنى به معتصم الأمير وعبير دربال لتغوص الموسيقى في أعماق عطور الجزر ويعلو التراث القرقني، ومع “حافلة في زروقا” فاحت رائحة رائحة الغزل والجمال، ليتماهى مع أريج الحضرة النسائية وتصدح حناجر المغنيات غادة عنابي ودرة الشيخ ونور عمار بـ “مشي العروسة قدم قدم ” قبل أن يعم عطر العيساوية والصوفية في الأرجاء ويغري محمد علي كمون بأداء أغنية ” سالمة”.

رؤية فنية عمادها الشغف..

رؤية فنّية مختلفة وبحث موسيقي عميق في الذاكرة الشعبية، موسيقى التراث بلمسة اوركسترالية تحفظ عطور تونس في نوتات تعبق بحكايات عريقة وتاريخ معتّق وترنو إلى العالمية.

ستة فصول موسيقية شبيهة بمراحل الخلق الست  سافر عبرها الجمهور إلى ربوع تونس وكسر كل الحواجز المادية ونجح ف من خلالها محمد علي كمون في توحيد تونس من شمالها إلى جنوبها، متحدّيا إكراهات الجائحة، وعوائق العمل الفني في تونس.

سيف التبيني، وأيوب الصامت، وأسامة الصالحي، ومهدي الميموني، أصوات صدحت بكلمات تمتد من الشمال إلى الجنوب في تماه واتساق حتى أنّك تخال لوهلة أنها نابعة من صوت واحد، الأمر نفسه يسنحب على درة بالشيخ وغادة العنابي وسارة بن شيخة وعبير دربال اللاتي أضفين لمسة أنثوية على العرض.

أصوات تمتد من بنزرت إلى بن قردان تعانق الجبال وتلامس رمال الصحراء وتسري بين الأمواج، تلوينات موسيقيّة موشّحة بأنفاس حفظة الغناء وخزنة ملاحم الحب والحرب، ملاحم خلقن منها أغان وأهازيج تزيّن الأفراح.

لحظات من النشوة.. 

لحظات كثيرة من النشوة رافقت عرض “24 عطر”، منها صوت معتصم الأمير حينما يصدح بحكايا الجنوب فيعانق الآثار في السماء، وصوت الطفلة نور بن عمار، صوت بريء تتماهي فيه كل الأزمنة.

بعيدا عن كل الأصوات المحملة بعطور الجهات، بدى صوت ناي أحمد ليتيم مختلفا جدّا حينما تعالى على مسرح دقّة، ربّما هي خصوصية المكان أو خصوصية زمان تقويمه الجائحة، أما زياد الزواري فكعادته يكتب خلجات روحه على أوتار الكمنجة فيشد إليه الأسماع.

وللزكرة حينما يبث فيها محمد علي واردة وأيوب الصامت بعض من أنفاسهم فتلتحم بصوت الطبل رائحة الفرح، ولخطوات الصامت إذ رقص عطر الحياة ولتمايل الفتاة الراقصة على إيقاع العرض عبق الأمل، ولعفوية محمد علي كمون وخطواته التي تشبه موسيقاه شذى الشغف وللتناغم بين كل العازفين على الركح عبير المحبّة

تفاصيل من العرض غلبت عليهاالنشوة بعضها متأت من التلقائية والعفوية وبعضها من الحب والشغف وبعضها من الشعور بألم الآخر كما هو الحال مع التذكير بمعاناة الحامة.

من بين المشاهد التي تظل عالقة بالذاكرة في عرض افتتاح مهرجان دقة صرة سفير اليابان وهو يتابع العرض بخشوع من مدارج دقّة، هي الموسيقى لا تعترف بحدود ولا حواجز لغة كونية قائمة الذات.

*صورة: محمد عزيز التوجاني

 يسرى الشيخاوي-

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.