عربة المدرسة وصاروخ المخبر

عربة المدرسة وصاروخ المخبر
توفيق قريرة
ما تزال المدرسة في العالم المتقدم، أو الذي في طريقه إلى التقدم، خاضعة في المواد التي تدرسها إلى ضرب من التقليدية وهي تضع لتلامذتها ولطلبتها المقررات العلمية. هذه التقليدية مطلوبة في التعليم، بل هي شرط أساسي من شروط كل تعلم؛ إذ بين العلم واكتشافاته ووصوله إلى المدرسة كي يعلم، وقت كبير. التعليمية وهي الفن الذي يهتم بالكيفيات التي تعد بها المضامين المعدة للتعليم، والسبل الكفيلة بنقلها في ظروف ملائمة تعطي قيمة كبرى لما يسميه إيف شوفلار Yves Chevellard النقل التعليمي، ويعني بشكل مبسط إعادة صياغة المعرفة أو العلمية التي أنتجت في علوم وفنون كثيرة صياغة تناسب مستوى المتعلم المقبل على تدريسها. ويميز في هذا السياق بين المعرفة العالمة التي ينتجها الباحثون والعلماء، وتضمها الكتب والمنشورات العلمية والمعرفة الموجهة للتعليم، التي تعلم في المدارس.
حين تقرأ في النحو كلاما عن تعدي الفعل إلى مفعولين، ستجده مختلفا كثيرا عن حديث أي كتاب مدرسي عن الظاهرة نفسها. وحين تقرأ كلام عالم الكيمياء لافوازياي عن التوازن الكيميائي والكيفية التي يدرس بها هذا المفهوم في المدارس الثانوية ستجد أن بين الكلامين فرقا. فما يصل من مادة علمية إلى الطلاب يصل مصفى ومهذبا ومبسطا ومتبعا منهجا آخر غير منهج العالم.
المعرفة العالمة تظل معرفة متطورة عبر الأزمان وتطورها لا يخضع لمقياس، بل يمكن أن يكون سريعا جدا سرعة لا تواكبها المعرفة الموجهة للتعليم التي عادة ما تحتفظ بالمتون العلمية، وتجدد المناهج التي تتوخى إيصال تلك المعارف للمتعلمين، في ظروف يقدر المختصون أنها تناسب المتعلم، وتجعل المعلم أقل استبدادا في الفصل، وأقل مركزية في ما يسمى المثلث التعليمي، الذي يجمع بين المعلم والمتعلم والمعرفة. تسير المعرفة العالمة بنسق صاروخي وتظل المعرفة الموجهة للتعليم تسير بعربة مجرورة بحصان. ففي الدرس اللغوي العربي على سبيل المثال ما تزال المؤسسات التعليمية الصغرى والمتوسطة والكبرى، تعيد إنتاج المعارف التي تلقاها أجدادنا منذ قرون، ويعتقد كثيرون أن المادة لا يمكن أن تتبدل، فلا سبيل لنا أن نجدد في مفاهيم مثل الفاعل والمفعول والجملة والكلام وأقصى الاجتهاد أن «نيسر» على المتعلمين طرق الوصول إلى هذه المفاهيم، ولذلك تجتهد المؤسسات وأحيانا يجتهد الأفراد في ابتكارات يعتقدون أنها تبسط المعارف الأصلية، وعادة ما يكون التبسيط في المداخل النصية المرغبة، أو في الكيفية التي نمثل بها المتصور، فاعتمدت طرق في تحليل الجملة تشبه الصناديق والمشجر، وهذه طرق مفيدة لا شك في تمثيل الجملة وفي بيان كيف أن عناصرها هرمية وليست خطية، لكنها تظل طرقا في التمثيل لا تواكب بالضرورة ما يحدث من تطور في العلم وفي المفاهيم.
العلم الذي يراقب النحو التقليدي هو اللسانيات، هذه الجملة على بساطتها وتجردها ووضوحها ما تزال غير مهضومة في الثقافة العربية العالمة. ما تزال بعض النخب تعتقد أنها حرة في الحكم على العلم بمعاييرها الأخلاقية التي لا تقبل أن يراقب علم نظامي لاحق معطيات فن سابق، بل هي تقبل علما بمعيار أو ترفضه بمعيار وتنسى أن حركة العلوم تطورية لا ارتدادية وموضوعية لا ذوقية.
لم يستلهم الدرس اللغوي في مدارسنا ولسوء الحظ كثيرا من معطيات اللسانيات التي راجعت كثيرا من المفاهيم والإجراءات غير العلمية. فعلى سبيل المثال لم يعد النحو مرتبطا باللحن، أو عدم اللحن بعبارة أخرى نحن لا نعلم العربية لكيلا يلحن التلميذ، بل نعلمه العربية بالاعتماد على قواعد، لكي يبني الكون بلغة أخرى غير لهجته. بين اللحن وبناء الكون تصوران وظيفيان مختلفان، يوجهان المدرسة وكيفية بنائها للدرس النحوي. في التصور التقليدي القائم على الصواب والخطأ تبنى التعليميات على أساس يراقبُ فيه الممتحن إنجاز المتعلم من جهة السلامة، والطرق التي تمكنه من أن يعرف من أين تدرك سلامة الكلام كأن يعرف ما الفاعل وما المفعول. لكن بناء الكون يهديه إلى تصور آخر يتجاوز الخطأ والصواب إلى القدرة على التمييز بين جملة تبني الكون بطريقة وأخرى تبنيها بطريقة مخالفة. وإن تبنى الجمل تبنى بكلام غير لاحن فهذا ليس موضوع امتحان.
يقول لك شمسكي، إن كل متكلم للسانه الأصلي هو متكلم مستمع مثالي، أي أنه لا يخطئ فيه، بل هو قادر على أن يصلح غيره الذي أخطأ فيه، ويعرف أن غيره ذاك لا ينتمي إلى لسانه، بل هو غريب عنه. ماذا سنقول والحالة هذه لعلم لساني يواجهنا بهذه الحقيقة ونحن نلحن من ناحية في العربية الفصحى، وندعي من ناحية أخرى أنها لساننا الأصلي: نحن إزاء حلين إما أن يكون اللسان العربي الفصيح الذي نتعلمه في المدارس ونلحن فيه ليس اللسان الأول بالمعنى العلمي للكلمة (ذاك الذي لا نحتاج فيه لقواعد صريحة كقواعد النحو العربي نتعلمه بها)؛ وإما أن نكون بصدد نطق لسان، ذهبت ذاكرتنا بقواعده وفرطنا في خريطة طريقه. لن يرضى عنك العلم إن ذهبت في هذا الاتجاه.
كانت الجملة في النحو العربي ودرسه القديم كالبيت الشعري في القصيد العمودي: هي وحدته التي ينبغي ألا تخفي جوهره، وهو الكلام لكن النحو العربي ومن خلال دروسنا ركز على الجملة ونسي الكلام وتناسى المعلمون العارفون أن سيبويه لم يستعمل في الكتاب مفهوم الجملة، بل استعمل الكلام، فلم نجد بالتالي ما يسمى بنحو الكلام الذي هو أعم من نحو الجملة وفيه يمكن أن يرتبط النحو بالمعنى.
في التصور الحداثي للنحو تكون الدلالة والإدراك متلاحمين وكذلك التصور الذي يسمح لنا ببناء الوضعيات في الكلام بأشكال مختلفة. ليست جملة (ضرب زيد عمرا) طرازية مثلما توهمنا الأمثلة النحوية المكررة، بل إنه لو حدث أن رأينا وكنا مجموعة شخصا اسمه زيد يضرب شخصا اسمه عمرو لبنينا جملا مختلفة تصف هذه الوضعية، وأنه لو كان هناك من لا يعرف الشخصين وطلبت شهادته لبنى جملا لا أسماء للأعلام فيها ولكانت نحوية أيضا. ومن الممكن أن يقول من يعرف زيدا جملة ناقصة (ضرب زيد) ومن يعرف عمرا ولا يعرف زيدا جملة ناقصة مبني فعلها إلى المجهول (ضُرب عمرو) فتلاحظ إذن أن التعدية والبناء للمجهول مسألة إدراكية: كيف أدرك المتكلم الوضعية التي يصفها.
في درس البلاغة ما زلنا نكرر في درس التشبيه والاستعارة والكناية أن هذه الظواهر البيانية محسنات للكلام ونستشهد بها من الشعراء لنقول إنها ظواهر لا يقدر عليها إلا المبدعون. يقول العلماء الجدد أن الاستعارة ليست من شأن اللفظ، بل هي من شأن الذهن وأنها موجودة في الكلام اليومي، وفي كلام المتكلم العادي. نحن إذن إزاء عربة يقودها فارس بيان يؤمن بأن البيان ليس من صنعة الناس جميعا، بل من شأن من حسن اللفظ ووشى المعنى بالاستعارة والتشبيه، وهذه هي عربة المدرسة ورواد فضاء من العلماء يحدثوننا عن كوكب آخر تكون فيه الاستعارة من شأن الذهن عموما، نحن نعيش الازدواج النفسي هل نصدق الفارس أم نصدق الرواد؟
ومن جهة أخرى ما زال دارسو علم المعاني يميزون بين الخبر والإنشاء على أساس أن الأول يقبل التصديق والتكذيب، ولا يقبلهما الثاني، والعلم الحديث يقول لنا إن هذه القسمة ضيزى، وإن قسما من الأخبار يمكن أن يكون كالإنشاء وهو الذي يسمى إنجازيات Performatives من نوع )حكمت المحكمة بالبراءة على زيد بعد أن تبين أنه لم يضرب عمرا) يخلى سبيل زيد وتصبح أوراقه نظيفة من أي جرم، هذا مفعول الكلام الإنجازي. يطلق زيد بقول القاضي ويقول لنا من الغد أستاذ البلاغة القديمة في الفصل إنها جملة خبرية، بمعنى إنها تقبل التصديق والتكذيب أي يمكن أن نشكك في الحكم نصا.. وإن اجتهد الأستاذ فسيقول، إن الكلام خبر شكلا وإنشاء مضمونا.. فتدخلنا الحيرة العملية من باب التأويل.
توفيق قريرة -أستاذ اللسانيات الجامعة التونسية
القدس العربي
المدرسةتوفيق قريرةلسانيات
Comments (0)
Add Comment