قريقوري بيرلمان: أشهر علماء الرياضيات في العصر الحديث، الذي رفض كل الجوائز بملايين الدولارات وقاطع الإعلام ثم هجر الرياضيات
جريجوري بيرلمان (Grigori Perelman) هو عالم رياضيات روسي لم يسمع به أحد قبل 2006، ولكنه أصبح حديث الجميع منذ ذلك الوقت.
بعد أن عمل بمُفردة لمدة 7 سنوات، قام بيرلمان بإثبات حدسية رياضية تُعرف باسم حدسية بوانكاريه (Poincaré conjecture)، وقام بنشر الإثبات على (arXiv.org)، وهو موقع لنشر المسودات الإلكترونية للأبحاث. أحد علماء الرياضيات وصف هذا الفعل بأنه لا يأتي إلا من شخص فقد عقله، لأن بحث بتلك الأهمية لا يجب أن يُنشر في مكان كهذا. نحن نتحدث عن مُعضلة رياضية ظلت عصيّة على الحل لمُدة 100 عام، ولو ثبتت صحة ما نشره بيرلمان فسيدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
وهو ما حدث بالفعل. عملت عدة مجموعات بحثية على مُراجعة البحث، واستغرق منهم الأمر عدة سنوات للتأكد من صحته. أحد الأسباب وراء طول فترة المُراجعة هو أن بيرلمان لم يُثبت حدسية بوانكاريه فقط، وإنما أثبت حدسية أعم تُعرف باسم (Geometrization conjecture)، كانت حدسية بوانكاريه مُجرد حالة خاصة منها. أيضًا، تنوع وتباين الأدوات الرياضية التي استخدمها بيرلمان جعل من المُستحيل على شخص واحد الإلمام بكامل الإثبات، ولهذا فلقد تطلب الأمر عمل عدة مجموعات من ألمع علماء الرياضيات لفهم ما قام بفعله.
لكن لماذا قد ينشر بيرلمان بحثًا بهذا الوزن في مكان مثل (arXiv.org) بدلًا من دورية رياضية مشهورة؟
السبب ببساطة هو أنه لم يكن يبحث عن الشهرة. هو قام بالبحث فقط لأنه أراد القيام به. المُعضلة جذبت انتباهه فقام بالعمل عليها لفترة من الزمن، ثُم قام بمُشاركة عمله في مكان يسهل الوصول إليه لمن أراد الاطلاع عليه. هذا كُل شيء. السبب يبدو مثاليا لدرجة تجعل من الصعب تصديقه، ولكنه فعلًا السبب الوحيد، كما سيتضح من سلوك بيرلمان بعد ذلك.
بالنظر لأهمية البحث، كان من الطبيعي أن يُمنح بيرلمان ميدالية فيلدز، والتي تُعادل نوبل في الرياضيات. هي أعلى وسام أكاديمي يحلم به أي شخص يعمل في الرياضيات، والحصول عليه يعني أن الفرد قد ضمن حياة عملية مُبهرة لنهاية العُمر.
ولكن بيرلمان رفض استلامها. جون بول (John M. Ball) -رئيس الاتحاد الدولي للرياضيات- ذهب إلى بيرلمان بنفسه وحاول إقناعه على مدى 10 ساعات عله يغير رأيه، ولكنه فشل. يقول بيرلمان في ذلك “هو عرض علي ثلاثة خيارات؛ أن أقبل الجائزة وأحضر لاستلامها، أو أن أقبل الجائزة ولا أحضر لاستلامها وهم سيرسلونها في وقت لاحق، أو ألا أقبل الجائزة. أنا أخبرته منذ البداية أنني اخترت الخيار الثالث. الجائزة لا تعني لي أي شيء على الإطلاق. الجميع فهموا أنه إذا كان الإثبات صحيحًا، فليست هُناك حاجه لأي تكريم آخر. أنا لست مهتمًا بالمال ولا بالشهرة. أنا لا أُريد أن أُعرض كحيوان في حديقة الحيوانات. أنا لست بطل الرياضيات. أنا حتى لست ناجحًا إلى هذه الدرجة، لهذا لا أريد أن أكون في موضع ينظر فيه الجميع إلي”.
في 22 أغسطس 2006 في المؤتمر الدولي للرياضيات بمدريد تم الإعلان عن فوز بيرلمان بميدالية فيلدز. ملك أسبانيا حضر حفل تكريم بيرلمان، بينما بيرلمان لم يحضر. رفض بيرلمان ميدالية فيلدز، وهو ما لم يحدث في تاريخ الجائزة.
لم يكن الأمر قد انتهى بعد بالنسبة للرجل. المُعضلة الرياضية التي قام بحلها تنتمي لمجموعة من المسائل تُعرف باسم “مسائل الألفية” (Millennium Prize Problems)، والتي يعني الوصول لحل صحيح لأي منها الحصول على جائزة قدرها مليون دولار. حدسية بوانكاريه كانت إحدى تلك المسائل، ولذا فلقد تقرر منحه الجائزة في 2010. أخيرًا أصبح بيرلمان مليونيرًا.
أو هذا ما كان ليحدث إن قبل الجائزة. رفض بيرلمان المليون دولار، وكان الدافع هذه المرة أخلاقي: هو أراد أن يتقاسم الجائزة مع ريتشارد هاميلتون (Richard S. Hamilton)، عالم رياضيات بارز كانت أبحاثه هي نُقطة البداية التي تحرك منها. اعتبر بيرلمان قرارت المُجتمع الرياضي “غير عادلة”، ولهذا رفض الجائزة اعتراضًا عليها!
من المعروف في عالم الأكاديميا أن واضع اللبنة الأخيرة هو من يحصل على “التكريم الكبير”، حتى وإن كان عمله يعتمد على أعمال سابقة. بالنسبة لحدسية بوانكاريه كان بيرلمان هو ذلك الشخص، ولذا فمن الطبيعي أن يحصل هو على التكريم. على الرغم من ذلك رفض الرجل الجائزة لأنه رأي أن مُساهمات هاميلتون لا تقل أهمية عن مُساهماته، ولذلك رغب في تقاسمها معه.
من النادر جدًا أن نجد شخصًا لديه حس أخلاقي بهذه الرهافة في عالم الأكاديميا. في الحقيقة، ما يحدث في الغالب هو العكس تمامًا؛ أن يقُلل الفرد من إنجازات الآخرين في سبيل أن يحصل هو على التكريم، وهو ما حدث مع بيرلمان نفسه عندما حاول أحد علماء الرياضيات التقليل من أهمية عمله ونسب الفضل في إثبات الحدسية لتلاميذه. كان هذا الفعل هو أحد الأسباب التي دفعت بيرلمان لمُغادرة مُجتمع الرياضيات الأكاديمي بأكمله.
“ليسوا أولئك من يهتكون المعايير الأخلاقية من يعدون دُخلاء، وإنما أشخاص مثلي هُم من يتم عزلهم”.
عن د.عماد الرمضاني