ستبقى_تنتظره
– سيأتي
– لن يأتيَ
– تنتظرين من يا أمّ الكبد المحترق؟
تنتظرين زورقا ابتلعه الماء؟ ….
يسحّ الدمع وينهمل الأسى..
ويثقل الظهر وينقطع الجهد وتختنق الأنفاس
وتهتزّ الروح من أوصالها لولا قوانين الآجال
العينان ساهمتان تسرحان في الفراغ
والذهن ساهٍ
والقلب ترضّه صخور من ذاكرة وقهر
يا وجه اللوعة القاسي وخلاصة الأوجاع المتبقية من عمر يلفّه النسيان بعد زوال
“يا أمّي”
ابتلعه البحر أم أكله الحوت أم حمله التيّار بعيدا ؟
غاب عنها في أوساع لا تدريها حتّى اسودّ من حولها الأفق وارتطم بجدار سميك
فهي تنتظره ساهمة لا تريد أن تغادر مقعد انتظارها رغم الرعب استوطنها من يوم شيوع اختفائه في هذا البحر الذي لا تدرك ساحله الآخر هناك حيث كان يريد الوصول.. فلم يصل.
صوت بداخلها يناديه:
– ليتك، يا ولدي، لم تكبر
ليتك لم تمش
ليتك لم تتكلّم ولم تضحك
ليت جوارحك لم تنمُ
وبقيتَ عندي،
قريبا منّي
لا تغيب عنّي
ليتك بقيت بين يديّ لا تتحرّك إلّا بي
أملّ أحيانا من عطبك الخَلقيّ وأشكو ربّي إلى ربّي ولكنّني أستغفر ربّي وأحمده أن رزقني من بطني بنوّة ترى فيّ أمومة وإن كانت لابن كسيح قيّدته الأقدار بي.
مثل مسيح جريح
ليتك بقيت مستطيعا بي لا بجوارحك
يا ولدي..
وليتني بقيت أقاسيك وحدي
“راسي راسك” ولا ثالث لنا..
وليت رأسي بقيت تدبّر لك
وتدير شأنك
بل ليتني لم ألدك ولم أحمل بك ولم أحلم
ولم أرتجف من خوفي عليك مضغة في الحشا
ليتني لم أعد طبيبا ولم أعمل بنصيحة ولم ألتزم بدواء
ليتك لم تأت من درجات الغيوب ولم يزغرد قلبي ومَن حولي بمجيئك
ليتني لم ألبس لباس عروس في يوم ختانك
ليتني لم أرافق خطاك الأولى ولم أسوّ لك الطريق
وطريقك قلبي يا ولدي
ليتني لم أرافقك إلى مدرسة
ولم أفرح بلوحة رسمتَها لي بأناملك الصغيرة حين غبتُ عنك في شأنٍ يوما كاملا، كأنّك قد خلقتَ لك منّي صورة لا تفارقك إذا غبتُ عنك كارهة..
لقد أحببتُني في ما رسمتَ مني يا ولدي ولا أزال أحتفظ بلوحتك في درج الحليّ أتحلّى بتوقيعك قبل كلّ زينة
– لقد أحببت وجهي ذاك الذي لم يرني به أحد سواك
يا “مضنوني”..
هل تعلم، يا روحي الشريدة، أنّ العالم كله، بغيابك، قد هاجره كل معنى؟
يا ولدي..
ليت زهرة الآمال لم تزهر برأسك
ليت أنّك بقيت دون هذا الحلم الذي أحترقت فيه فأحرقت من حريقك كبدي
يا كبدي.
ليت قلبك لم ينبض بحبّ أحرقت لأجله مراكب عمري ومضيت دوني
وتركتني نهب الضياع
أمضغ كلّ هذا الغياب المرّ
وحدي
وأنتظر على ساحل ماء
لا تأتي منه حياة..
ولكنّني سأنتظر
وأنتظر.
الأستاذ نورالدين الغيلوفي