مُدن الغُبار البشري ؟!

مُدن الغُبار البشري ؟!
د. زهير بن يوسف
هي إحدى مدن الغبار البشري،
* سماها صالوست (ت 35 ق.م) قديما مدينة الرخاء والكرم، بل مدينة الرخاء العظمى “Civitas Magna Opulens”،
* ونعتها محمد التواتي (ت 1621)، الملقب بسيبويه المغرب، بالمحروسة،
* أمّا البَكري (ت 1094) فقد قال فيها: إنها هُرِي إفريقية، أي مطمور تونس وسلّتها الغذائية،
* وزاد الحسن الوزان( ت 1554) المعروف بليون الإفريقيّ
Léon L’ Africain
فقال: “لو كانت منها اثنتان في سهل لزادت حبّات القمح على حبات الرمل،،،
ولاحظ أنّ “أهلها متمدنون متحضرون”، ولهم “آداب وأخلاق، ونظام يسوسهم، وهم مرتبون في كافة أعمالهم وسيرة سلطانهم، وقد امتلأت مدينتهم بصنوف الصناعات حتى الحياكة، هذا فضلا عن الجم الغفير الذين يتعاطون الفلاحة”.
* من ناحيته لاحظ الوزير السرُاج (ت 1737) أنّه “إذا كثُر خيرُها، عمَّ إفريقية (أي تونس)، إذ هي عُمدتها في هذا الأمر”.
*****
* إلا أنّ العبدري (ت 1289) رثى حالها، في رحلة الذهاب، لمّا وصفها بأنها ” مالحة أجاجة، قد هتكتها الأيدي العادية، وفتكت فيها الخطوب المتمادية، فخشوعها لائح وضراعتها بادية، حتى صارت، وهي حاضرة، بادية”،
وأضاف أن أهلها يستعدون لدفن موتاهم كما يستعدون ليوم الضِّراب والطِعان خوفا من العُربان”.
* وقارب ناسُها القُدامى بينها وبين “قنديل باب منارة” فقالوا:
إنها تضوي ع البرّاني،
* وفي سياق حالة اليُتم والتهميش وقلّة الحيلة ماهى آخرون بينها وبين بقرة مقطوعة الذّيل فقالوا في تشبيه بليغ إنها
“بقرة بلا ذيل ينشّ عليها ربي”،
* ووصفها أحد صلحائها، من ” كبار الأخيار”، قيل إنه سيدي صالح الزلاوي، “بالفاخرة”،
وزاد فقال، وأظنه لم يُصب المرمى:
إنها “ع( لى) البلاء مستاخرة، في الدنيا وفي الآخرة”.
وأظنّ هذا ” البلاء” دائم، كما ” الفراق”،
وأردف قائلا:
“ هي بلادي، وآنا مكبّ عليها،
ظالمها هالك، ومن يتعدى عليها،
كِي يكون منها فيها”.
*****
وأضاف بعض أبنائها من المؤرخين، وأحسبه صاحب “المَشرَعُ المُلكي” Chronique Tunisienne ما معناه أنّ:
“كل سكّان الإيالة مرتاحون، وفي عيشهم متنعمون”، واستثناها هي، واصفا إياها بالقرية، حيث قال:
” إلا من سكن القرية!”
وأكّد على ذلك في “التكميل المُشفي للغليل” وهو ثاني كتبه،
ولم يفته أن يشنّع بكل ذلك في بعض حواشي ” سُلوان المُطاع في عُدوان الأتباع” و” المُذيّل على الرسالتين”.
*****
وجاء عن أهلها وناسها أنهم “بكّاية” “وما هُمشي شكاية”،
ومن نكد الدّهر أن يسميها العربُ منذ العصر الوسيط الأعلى مدينة القمح تمييزا لها عن نظيرة لها مختصة بالزيت، وثالثة توصف بالقديمة، وهي تزوُد البلاد بما لا يقل عن ربع حاجياتها من الحبوب، ومع ذلك فمهرجان القمح في غير ربوعها وليس فيها، بل إنّ المحافظة على المشاتل البيولوجية الأصيلة كالشيلي والمحمودي أمر يعني آخرين ولا يعنيها!!!
*****
أما عن “بِرزقانها” وغيره من أطباقها الشهية ومطبخها الباذخ وأطاييب مائدتها الثرية، فغيرها من المدن التونسية به حفيّة، والحال أنه ليس أولى به منها هي!!!
*****
قال صاحبُ الكلام، وقد سّمَّوه قوّالا:
“يا ( ،،،،،،،،،،) يا بجباجة،
يا اللي فيك ألف حاجة وحاجة”،
وتلاعب بالضمائر فقال:
“أرضها دم وماؤها سمّ،
واللي يغدرها ما يعيش كان في الغبينة والهمّ”
وفي رواية أخرى:
” عيش فيها ماية 100 سنة، ما تعملش صاحب ثمّ؟!”
*****
يونس باي نجل علي باشا السفّاح( قُتل عام 1756)، قالها كلمة و”نفدت” لما نعتها على ما يروي بعض الإخباريين بالفاجرة في إشارة إلى أنها كانت مدينة مستباحة لا ترد غُزاة ولا أغرابا، وقد غُزِيت وسلُم أهلُها مفاتيح مدينتهم إلى الأغراب:
” هذه المشلفحة الفاعلة، تكثر فيها المقتلة.
فيا ويح تونس من يونس، كما جاء في المثل السائر،
ويا ويحها هي، كأية مدينة تونسية أخرى، من أولاد راحيل.
أيتها المدينة الفاجرة: هل كل شيء فيك يباع؟!
نيرون مات، وزردُ السلاسل، فلِم لا يملأ الوادي سنابل؟!
*****
ومن اخبار المناقب:
انّ خميسة شريفة، وهي إحدى شهيرات الصالحات بها، كانت تتردد على عائلة فقيرة من الفرّانين؛ وتحديدا في فِرناق حمام المدينة؛ و كان دأبها وديدنها التأمل في ” الرووس والكِرعين كيفاش تتشوشط”؛
فكانت تأخذ الرأس بين يديها وتضعه مُنسفلا
وتضع الذيل في مستوى يعلو هامتها
وتردد في نوع من الخطاب الإشاري المُفعم بالرمز:
اهبط يا رأس؛ اطلع يا كراع!!!
اهبط يا رأس؛ اطلع يا كراع!!!
وكثيرا ما كانت تقول في نوع من الكشف او الاستباق للزمن:
” فريقا Friga بين الأجبال،
تقلُ أُمّاليها ويتبدّل حالها لأشوم حال.
*****
أحد أبوابها يُدعى “باب الجنائز”: وباب الجنائز مسلك عتيق يحدّث عن حاضر مدينة، وواقع وطن، وأزمة جهات وفئات.
هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدها المعماري الثري وعمق المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزاخر وبين مشهد الحاضر الرديء وقانون الغاب وذهنية التوحش:
انتصابا عشوائيا،
وفوضى مرورية،
واحتلالا للطريق المارّ،،،،
” حاميها ” في ذلك مثل ” حراميها” ؟!
حركة الإنسان المار ّ عبر مسلكه وتعابيره تروي تناقضات واسعة:
– بين إيقاع بطيء لحياة رتيبة، مُمِلّة، وجنائزية، ترشح بالبؤس والبطالة والعطالة والفقر، في مدينة عائمة فوق ثروات مائية وفلاحية تُحسب لها،
– وبين إيقاع زمن سريع تجري أيامه كالطوفان يجرف معه بريق الحياة من وجوه الناس ويقضي على أصالة المكان الذي ينتمون إليه.
*****
ومما جاء في كتب تاريخ الأدب أنّ الشاعر حمّاد بن علي الملقب بالبين قضّى بها مدّة زمن إلحاقها بدولة بني حمّاد، وما كان من أهلها بالعيش فيهم”، فقال:
لمن أتشكّى ما أراب من الدهر*
وقد ضاق بي عن حمل أيسره صدري
وقلّ الذي يُجدي التشكّي وأين من*
أرجّيه في يومي لقاصمة الظهر
أراني قد أصبحت في قُطر باجة*
غريبا وحيدا في هوان و في قهر/
*****
وزاد آخر فقال:
برّه يا ” بن صندل” فين حصدت تندّر؟! ٠
حبّات القمح على حبات الرمل،،،
ولاحظ أن “أهلها متمدنون متحضرون”، ولهم “آداب وأخلاق، ونظام يسوسهم، وهم مرتبون في كافة أعمالهم وسيرة سلطانهم، وقد امتلأت مدينتهم بصنوف الصناعات حتى الحياكة، هذا فضلا عن الجم الغفير الذين يتعاطون الفلاحة”.
من ناحيته لاحظ الوزير السرُاج (ت 1737) أن “خيرها إذا كثُر عمَّ إفريقية (أي تونس)، إذ هي عُمدتها في هذا الأمر”.
*****
إلا أنّ العبدري (ت 1289) رثى حالها لما وصفها بأنها ” مالحة أجاجة، قد هتكتها الأيدي العادية، وفتكت فيها الخطوب المتمادية، فخشوعها لائح وضراعتها بادية،
حتى صارت، وهي حاضرة، بادية”،
وأضاف أن أهلها يستعدون لدفن موتاهم كما يستعدون ليوم الضِّراب والطِعان خوفا من العُربان”.
وقارب ناسُها القُدامى بينها وبين “قنديل باب منارة” فقالوا:
إنها تضوي ع البرّاني،
وفي سياق حالة اليُتم والتهميش وقلّة الحيلة ماهى آخرون بينها وبين بقرة مقطوعة الذيل فقالوا في تشبيه بليغ إنها
“بقرة بلا ذيل ينشّ عليها ربي”،
ووصفها أحد صلحائها، قيل إنه سيدي صالح الزلاوي، “بالفاخرة”
وزاد فقال، وأظنه لم يُصب المرمى:
إنها “ع البلاء مستاخرة، في الدنيا وفي الآخرة”.
وأظنّ هذا ” البلاء” دائم.
وأردف قائلا: “ظالمها هالك، كِي يكون منها فيها”.
*****
وأضاف بعض أبنائها من المؤرخين، وأحسبه صاحب “المَشرَعُ المُلكي” Chronique Tunisienne: “كل سكّان الإيالة مرتاحون وفي عيشهم متنعمون، واستثناها هي، واصفا إياها بالقرية، حيث قال: إلا من سكن القرية!
وأكد على ذلك في “التكميل المشفي للغليل” وهو ثاني كتبه،
ولم يفته أن يشنّع بكل ذلك في بعض حواشي ” سُلوان المُطاع في عُدوان الأتباع”.
*****
وجاء عن أهلها وناسها أنهم “بكاية” “وما هُمشي شكاية”، ومن نكد الدهر أن يسميها العرب قديما مدينة القمح تمييزا لها عن نظيرة لها مختصة بالزيت، وهي تزوُد البلاد بما لا يقل عن ربع حاجياتها من الحبوب، ومع ذلك فمهرجان القمح في غير ربوعها وليس فيها، بل إنّ المحافظة على المشاتل البيولوجية كالشيلي والمحمودي أمر يعني آخرين ولا يعنيها!!!
*****
أما عن “بِرزقانها” وغيره من أطباقها الشهية ومطبخها الباذخ وأطاييب مائدتها الثرية، فغيرها من المدن التونسية به حفيّة، والحال أنه ليس أولى به منها هي!!!
*****
قال صاحبُ الكلام، وقد سّمَّوه قوّالا:
“يا ( ،،،،،،،،،،) يا بجباجة،
يا اللي فيك ألف حاجة وحاجة”،
وتلاعب بالضمائر فقال:
“أرضها دم وماؤها سم،
واللي يغدرها ما يعيش كان في الغبينة والهمّ”
وفي رواية أخرى:
” عيش فيها 100 سنة، ما تعملش صاحب ثم؟!”
*****
يونس باي نجل علي باشا السفّاح،. قالها كلمة و”نفدت” لما نعتها على ما يروي بعض الإخباريين بالفاجرة في إشارة إلى أنها كانت مدينة مستباحة لا ترد غُزاة ولا أغرابا، وقد غُزِيت وسلُم أهلُها مفاتيح مدينتهم إلى الأغراب:
هذه المشلفحة الفاعلة، تكثر فيها المقتلة.
فيا ويح تونس من يونس، كما جاء في المثل السائر،
ويا ويحها هي، كأية مدينة تونسية أخرى، من أولاد راحيل.
أيتها المدينة الفاجرة: هل كل شيء فيك يباع؟!
نيرون مات، وزرد السلاسل، فلم لا يملأ الوادي سنابل؟!
*****
ومن اخبار المناقب:
انّ خميسة شريفة، وهي إحدى شهيرات الصالحات بها، كانت تتردد على عائلة فقيرة من الفرّانين؛ وتحديدا في فِرناق حمام المدينة؛ و كان دأبها وديدنها التأمل في ” الرووس والكِرعين كيفاش تتشوشط”؛
فكانت تأخذ الرأس بين يديها وتضعه مُنسفلا
وتضع الذيل في مستوى يعلو هامتها
وتردد في نوع من الخطاب الإشاري المُفعم بالرمز:
اهبط يا رأس؛ اطلع يا كراع!!!
اهبط يا رأس؛ اطلع يا كراع!!!
وكثيرا ما كانت تقول في نوع من الكشف او الاستباق للزمن:
” فريقا Friga بين الأجبال، تقلُ أُمّاليها ويتبدّل حالها لأشوم حال.
*****
أحد أبوابها يُدعى”باب الجنائز”: وباب الجنائز مسلك عتيق يحدّث عن حاضر مدينة، وواقع وطن، وأزمة جهات وفئات.
هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدها المعماري الثري وعمق المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزاخر وبين مشهد الحاضر الرديء وقانون الغاب وذهنية التوحش انتصابا عشوائيا وفوضى مرورية واحتلالا للطريق المارّ،،،، ” حاميها ” في ذلك مثل ” حراميها” ؟!
حركة الإنسان المار ّ عبر مسلكه وتعابيره تروي تناقضات واسعة:
– بين إيقاع بطيء لحياة رتيبة، مُمِلّة، وجنائزية، ترشح بالبؤس والبطالة والعطالة والفقر، في مدينة عائمة فوق ثروات مائية وفلاحية تُحسب لها،
– وبين إيقاع زمن سريع تجري أيامه كالطوفان يجرف معه بريق الحياة من وجوه الناس ويقضي على أصالة المكان الذي ينتمون إليه.
*****
ومما جاء في كتب تاريخ الأدب أنّ الشاعر حمّاد بن علي قضّى بها مدّة غريبا فقال:
لمن أتشكّى ما أراب من الدهر*
وقد ضاق بي عن حمل أيسره صدري/
وقل الذي يجدي التشكي وأين من*
أرجّيه في يومي لقاصمة الظهر
أراني قد أصبحت في قطر باجة*
غريبا وحيدا في هوان و في قهر/
*****
وزاد آخر فقال:
برّه يا ” بن صندل” فين حصدت تندّر؟!
د.زهير بن يوسف
Comments (1)
Add Comment
  • فاطمة البوبكري.

    “مدن الغبار البشري” : منذ العنوان يتبادر للقارئ غرابة الموضوع وطرافة المحتوى وربما مأساة أناس… ولكن لا يخطر بالبال أن تكون زاوية الحكاية تاريخية.. نقدية..
    أسلوب جديد قي السرد وإثارة أزمنة كان يظنها البعض قد أفلت.. ولكنّ معالمها مازالت تستنشق غبار الحاضر عبر مسالك الماضي..
    انتقال عبر السمات التي ميزت المدينة على مدى السنين والحضارات.. ولكنها باقية تعلن ديمومتها وثباتها من خلال ما تركته في الذاكرة وما نقشته على الطرقات والمسالك الزاخرة بآثار من مرّوا من هناك ..
    احتراماتي لك أستاذنا الفاضل.