“سُلوان المُطاع في عُدوان الأتباع”
او “مواقف ومخاطبات”
د. زهير بن يوسف
- السلوانة الأولى:
بعد مرافقة علمية سريعة له منذ بضعة أيام في مركز المدينة العتيق عاد مكسور الخاطر، وعلى يقين تام بأن ” حاضرة التلال ومأوى قراه”، بعبارة ابن أبي الضياف، ستكون ذكرى مدينة، الوندال الجدد يدمرون كل شيء.
ناسها رحلوا، بعد أن حزموا حقائبهم وسلموا مفاتيح مدينتهم إلى الأغراب …
وتوسدوا الظلال وناموا ، فهم ميتون إلى الأبد …
“كم أتعبتني بلاد أهلها ارتحلوا
ما زلتُ أكتبها شعراً وتمحوني”
***
اتسع الخرق على الراقع …وألبوم صوره مؤلم غاية الإيلام … حجم التدمير كبير لأغراب بلا ذاكرة، خاصة مع غياب الوازع …وغياب الرادع.
خٌربتها الفؤوس…فأمست كساعد المقطوعة يده، وقد خربوها،
ما من مكان من أماكن الذاكرة إلا وقد استنفذوه حفرا ونبشا! ألا إنكم لفؤوس الخراب،
بل السوس الناخر،
وطاعون الانصهار الاجتماعي العكسي الجارف: قيما وسلوكات.
***
ازدادت غربته وهو يدلف نحو الجامع الكبير، وقد كان في نيته أن يقف على نقائشه التخليدية الرومانية والعربية:
– هذه نقيشة اولى تعود إلى القرن الثاني للميلاد كتبت بالحرف اللاتيني تخلد ذكرى ارتقاء مدينته إلى مرتبة المستوطنة الشرفية الرومانية وتمتع سكانها بحقوق المواطنة الرومانية وانتخابهم لممثل عنهم ومدافع عن مصالحهم ومنافح عن مدينتهم كان عضوا بمجلس الشيوخ الذي كان يعقد جلساته في روما ،،،
– وهذه نقيشة ثانية نفذت بالخط النسخي البارز على مهاد مرمري ملكي،،، تخلد ذكرى ” تجديد الجامع الأعظم ومناره الأفخم”
سأله رياض، الباحث الشاب في علوم الآثار، وقد كان مرافقا له: كيف طليت النقيشتان بالدهن المائي على ما لهما من قيمة مرجعية؟
فأجابه متألما: إنها ذهنية دين بلا ثقافة، انظر إلى جوسق المئذنة كيف طمسوا واجهاته الأربعة المرقطة بالدهن المائي،
وانظر إلى مثاب بئره المقدودة من حجر الكذال،،، كيف كسروها وألقوا بها في المصبّ البلدي.
تبين له إنما أتى في النهاية ليقف على حجم العمى، عمى الألوان، وعمى البصائر، وثقافة التوحش.
فأذا به يردد:
هي غربتان، فغربة من عاقل * ثم اغتراب من محكم عقله
صدق أبو العلاء.
جهل مقدس يطبق على المكان وطقوس في العبادات ليست من العادات، الدار تنكر معمارها والعتبات تعتب على زوارها ..
***
- السلوانة الثانية
إحساس مرير آخر بالغربة انتابه وهو يدلف نحو جامع الباي تحت سور المدينة حيث أمّ أجداد له الناس والبايات أنفسهم وخطبوا فيهم وتقدموا عليهم ؟؟؟
تخلص الغُزاة من دكة المؤذنين، فلا محفل،
وأطاحوا بباب المنبر العثماني الجليل فلا مدخل،
ونحُوا القبة الملكية التي يقف تحتها الخطيب فلا مجلس،
وما اولوا اعتبارا لحليته الزخرفية، ولا لقيمته التاريخية والرمزية، ولا لأهميته المرجعية في العمارة المسجدية، وغيبوا صوانات الكتب،،، وصناديق الختمات التاريخية،،،
وأخيرا أفتى لهم بعض الجهال بعدم جواز الصلاة في الرواق الموازي لجدار القبلة لأن المنبر يقطعه؟!
فأطاعوه، وأخلوا المكان، وقطعوا الصلاة من صدر البيت وأشرف موضع فيه، ومكان ذاكرتهم المشتركة المرجعي.
…ورأيت أقواما لا يرعوون،
ولم أر قوما يعقلون ؟؟؟؟
***
لفتت انتباهه أشغال صيانة قائمة على قدم وساق، فقال في نفسه، لعل ذلك من بقايا الألفة ودفء العشرة،،، وظنها ترتيبا وتهذيبا،،،
ولاحت له كتلة الجامع، مهيبة، بيضاء، ناصعة، نقية نقاء الثوب الأبيض من الدنس،،، وما إن تقدم ومرافقه باتجاه باب بيت الصلاة العتيقة، يروم زيارة المعلم حتى انذهل لما رأى:
– بريي، سامحني، هل يطلى الجليز بالدهن المائي؟
قال: لا،،،، وهو مندهش من السؤال!!!
– والجليز الخزفي: هل يطلى؟
– فكررها بعد إطراق،: هو الآخر لا يطلى،،،
تدخل رياض ليقول: لا يطلى بالدهن المائي لا جليز ولا جليز خزفي،،،
كتم غضبا عارما اجتاحه،،،
وأردف قائلا: إذا كان الدهن المائي لا يطلى جليزا ولا جليزا خزفيا،،، فكيف تطلي به كذّالا او رخاما؟!
وكان الدهان قد أتى بالدهن المائي على حواشي باب الجامع
جميعا،،، وقواعد إطاره الرخامي المستطيل وأسافل عضادتيه
تلطيخا وتلبيزا.
لا تثريب عليك!،،، إن تفعلها،،، فقد فعلها أسلاف لك من قبل،،، لما بددوا ازيد من واحد وثلاثين ألف دينار بذلت في ترميم مئذنة الجامع المغربية الأندلسية بضربة جهل واحدة بالدهن وبالدهن المائي طمست ملامح مكوناتها الإنشائية وشوهت فيها كل خصوصية معمارية حضرية.
وعد الدهان بالتدارك،،، وهو يردد:
” صحيح ما يجيش منو،، ندهنوا الرخام،،،” ،
وظن أنه قد استعاد ” شاهد العقل” وارعوى
عاد بعد أسبوع فإذا بالمشهد أخزى وأنكى بل وانكر:
كتلة الجامع التي كانت تسبح أزمنة ودهورا في بحر من البياض الناصع، كما في كل مكان من بلاد المغارب، لم ترق
للأغراب،،، فرقطوها،،، بأن جعلوا لها حزاما بلون رمادي مكفهر كلون السماء التي يريدون، وما هي بسمائنا، ومن المستحيل أن تكون سماء مشتركة بيننا وبينهم،
وكلون الحياة التي فيها يرغبون، وما هي بحياتنا،،،
والوجوه التي يحملون وما هي بوجوه تشبهنا ولا نحن تشبهها!
***
لم يملك أمام هذا المشهد المعماري الكارثي إلا أن يقول:
بربكم،
حينما يضيق من حولنا الفضاء ويحمّ من حولنا القضاء
بأي لون تكون أكفاننا؟
قالوا: بالأبيض: سيّد الألوان!
فقال لهم:
وبالاستتباع،
اوليست سيادة الألوان من سيادة البنيان، أو ليس جمال الألوان صورة من جوهر الإنسان؟ او ليست الألوان كما التعمير والبنيان علامات دالة للعابرين على السكان!
بربكم،
من منكم رأى ” جامع مسوسن” !!!
***
تروي اخبار المناقب انّ خميسة شريفة، وهي إحدى شهيرات الصالحات بها، كانت تتردد على عائلة فقيرة من الفرّانين؛ وتحديدا في فِرناق حمام المدينة؛ و كان دأبها وديدنها التأمل في ” الرووس والكِرعين كيفاش تتشوشط”؛
فكانت تأخذ الرأس بين يديها وتضعه مُنسفلا
وتضع الذيل في مستوى يعلو هامتها
وتردد في نوع من الخطاب الإشاري المُفعم بالرمز:
اهبط يا رأس؛ اطلع يا كراع!!!
اهبط يا رأس؛ اطلع يا كراع!!!
وكثيرا ما كانت تقول في نوع من الكشف او الاستباق للزمن:
” فريقا Friga بين الأجبال،
تقلُ أُمّاليها ويتبدّل حالها لأشوم حال”.
***
يحكم فيكم ربي، يا أبناء راحيل. أثبُجٌ ، من أحفاد الجراد المنتشر، أثبج ليس فيهم من بني الأخضر احد
اصحاب الحل والعقد او الربط والحل قد توسدوا الظلال وناموا.
الله يرحمك يا بلادي
الله يسامحك يا عبد العزيز ،قلت لك:أخطاني من الجوامع ؟