رمضانيات..

رمضانيات..

د. زهير بن يوسف

  1. حكاية مخطوط

في جولة له مسائية داخل النسيج العمراني العتيق بإحدى المدن التونسية التاريخية أعرض عن “باب الجديد” و “ساباط السعيّد”، ومال على “الربض القبلي” فدخل البلد من بابه ذائع الصيت “باب الجنائز”.

ترك “الملاسين” على شماله و”بطحاء تحت التوتة” و”بطحاء البرادعية”، ونظر عن بعد فلاح له “باب المدينة” أو أطلال منه تكسوها غيوم ذاكرة ضاربة بعمقها في الظلال، وبدت له “القصبة” متربعة في كبرياء القلاع الحصينة، تطل من أعلى هضبة “عين الشمس” على كامل مرج ابن عباس الساحر، وبدا له “برج المنسي”،على صدر الزمان،وشما منسيا يأبى النسيان.

هل يمرّ “بسوق الحوكية” و”باب سويقة” أم يمضي إلى “باب العين”؛ و”المكمدة”؟ وينحدر من هناك إلى باردو، حيث سواني بنت الريّ و”بير دلنسي” وسانية سبانيول ؟

تردد قليلا ثم قرّر أن يعرّج على الأسواق: “سوق العطارين” “فسوق القماش”.

تردد من جديد وقد قرر الوصول إلى “باب السبعة”: سبعة من الأولياء أم سبعة أرباب لديانة قديمة؟

هل يجتاز بـ”سوق اللفة” وفندق الجرابة أم “بسوق النحاس”؟ ويضطر إلى المرور بـ”حومة الأندلس” حيث ربض سيدي إمحمد المغراوي؟

أخيرا قرر الانعطاف عبر مسلك آخر:

سوق قديمة غاب رسمها،

سأل بعض من صادف بها من كبار المدينة عن إسمها، سأل وكرر السؤال؟ لم يجبه أحد؟

قال إنها كانت تسمى “سوق الزنايدية”،

لم يعرف أحد للتسمية معنى،

قال إن التسمية ذات علاقة بإصلاح الأسلحة، البنادق والمكاحل والقارابيلة تحديدا، تماما مثل سوق السلاح بمدينة تونس، الزنايدي هو الذي يصلح زناد البندقية. وقد كان بالمدينة أكثر من زنايدي واحد ولذلك أسس أرباب الحرفة سوقا.

فجأة انبرى الحاج صلاح قائلا: “إي نعم صحيح، والد إبراهيم قزبار كان زنايدي”.

وأردف سي عبد الباري: “صحيح، هو آخر زنايدي عرفناه بهذه الحرفة”.

فتحت شهية النقاش وازداد المشاركون فيه، وكان نقاشا مفتوحا على قارعة الطريق.

جاءت سيرة العالم محمد التواتي المتوفى بهذه المدينة عام 1621، وانطلق الحديث عن مؤلفاته: فقها وأدبا ولغة وعلم كلام.

المفاجأة الكبرى فجّرها سي أحمد الزين لمّا عقّب على كلامه بأفعال، كان وقعها فوق كل الكلام، قال:

إنّ للتواتي مؤلفاتٍ من بينها “غُنية الراغب” و”الشواهد الشعرية” و”لامية الأفعال” و”الخبر في عجائب البشر”، ومخطوط بعنوان “شرح الأخضري الكبير في الفقه”.

ثم استسمح في الانعطاف إلى دكانه داخل سوق القماش وليجيء بمخطوط أنيق منسوخ بخط مع مغربي جميل، وانبرى قائلا؛

هذا هدية لك: “عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان”،

وهو تعليق على شرح المختصر لعبد الرحمان الأخضري.

مخطوط نادر آخر يضاف إلى نفائس مخطوطات خزائن هذه المدينة التاريخية.

شكرا لك سي إحميدة وعلى ما اختصصتني به من ثمين الهدايا.

  1. الختمة المهاجرة !!!

بالأمس القريب كان بإحدى القرى يتصفح مخطوطا، هو عبارة عن ختمة للقرآن الكريم متكونة من 30 جزءا كانت موضوعة في صندوق اُعِدّ خصيصا لذلك، كم هي أنيقة هذه الختمة، وكم هو باذخ تسفيرها: تجليد تونسي مميز بتأثيرات عثمانية واضحة، ثلاثة اُطُرٍ متوازية توشح غلافا من الجلد البُنّي المزخرف، جلد صقيل تتوسطه رصيعة محورية تتفرع عنها تعليقتان منفذتان عموديا بالزخرفة ذاتها.

بحث عن نص التحبيس: إسم الناسخ وتاريخ النسخ وإسم المُحبّس وتاريخ التحبيس ومُحرر الحُبسية في 29 جزءا، كل جزء منها يتكون من حزبين، ولكن عبثا، فقد نزعت من الأجزاء كلها ورقة المستهل والغاشية أي الورقة الأولى والأخيرة من المخطوط.

ساورته بعض الشكوك لأن الأجداد حينما كانوا يُحبّسون المصاحف أو الأختام أو غير ذلك من الكتب على الجوامع والمدارس كانوا يفعلون ذلك عن طريق العدول؟!

ولا يوازي حرصهم على نص التحبيس سوى حرصهم على نص الوديعة، وهل يكون تحبيس بلا وديعة، ورغبة في كسب الثواب والأجر.

لا وديعة ولا نص تحبيس!!!

أخيرا عثر على نصّ التحبيس في جزء واحد،

بقي النص لأنه كان مكتوبا على وجه ورقة إذا نُزعت نُزع معها جزء من النص القرآني،

هذه مفاجأة أولى.

المفاجأة الثانية أذهلته حقا:

المُِحبّسة محبوبة بنت الشيخ محمد النوري:

إحدى السيدات المنحدرات من واحدة من عائلات إحدى المدن التونسية العريقة، وكريمة الشيخ محمد النوري بن حسين أحد كبار أئمة الجامع الكبير المعقل التاريخي للمذهب المالكي بهذه المدينة العتيقة التي اطلق عليها القدامى لقب الباذخة، وسماها الرومان مدينة الرخاء والكرم، ووسمها أحد صلحائها بالفاخرة ونعتها أحد كبار علمائها بالمحروسة.

محرر الحُبُسية هو العدل حمادي النوري، وهو شقيقها، وجليسه عمر بن صالح، أحد قدماء عدول البلد.

المُحبّس عليه: وهنا الإشكال الكبير،

“الزاوية الرحمانية الكائنة بحومة سيدي بوعنبة داخل باب أبي طاعة من البلد حيث ضريح الشيخ المتولٌي أبي عبد الله محمد بن أحمد القسطلّي”:

هكذا جاء حرفيا في نص التحبيس، أي زاوية القسطلي بتلك المدينة الأم ؟؟؟ !!!

تاريخ التحبيس: أواسط شهر ربيع الثاني سنة 1286 للهجرة/ جوان 1869 أي أن الختمة، وهي كاملة جاملة، عمرها لا يقل عن 153 عاما.

ظل صامتا، إلا من صدى صوت بداخله كان يردد:

من رحّل هذه الختمة من المنشأة الروحية الأولى التي كُتبت من أجلها؟ وما الذي رحّلها؟

وفي أية ظروف؟

أهي الحرب و”الهجّة” والرطوبة والمطر؟ أم هي أيادي البشر؟

لم يجد وصفا دقيقا يمكن أن ينعت به هذا “الترحيل”.

“الترحيل” يعود إلى تاريخ قديم والدليل على ذلك وجود إسم كتب بخط عتيق هو إسم من انتقلت إليه ملكية هذه الختمة، بغير وجه حق طبعا لأن ما يُحبّس على مؤسسة روحية أو علمية لا يقع التفويت فيه بأي وجه من الوجوه حتى وإن كان على وجه الهدية، هذا المالك إسمه بوجمعة بن الحاج حسين بن الحاج عبدة بن المؤدب، أحد مشايخ التراب.

 

Comments (0)
Add Comment