سيرة البطل الصوفي بين الواقع والعجائبي: الوليّ سيدي علي الآغا الحامي الرمزي لمدينة باجة أنموذجا

سيرة البطل الصوفي بين الواقع والعجائبي:

الوليّ سيدي علي الآغا الحامي الرمزي لمدينة باجة أنموذجا

د. زهير بن يوسف

 

تحتل الزوايا والمزارات ومقامات الأولياء عموما موقعا متميزا داخل النسيج الحضري الإسلامي قد يضاهي في أهميته لدى بعض الشرائح الاجتماعية أماكن العبادة الرسمية، نعني المساجد والجوامع، أو يتفوق عليها وذلك بحسب المكانة التي تقتلعها هذه المنشآت الروحية داخل الأفق الذهني للمجموعة، مكانة تكتسي بجلال المقدّس وحضوره، وهي قداسة تمنح المكان مع مرور الزّمن هالة من الإشعاع لا مثيل لها تستمد مشروعيتها بالأساس من مدى قدرتها على رسم الخلاب من الوقائع وتقميش صورة الوليّ بأفانين من البطولة الأسطورية تجد مبرراتها في ما يهفو إليه لاوعي الذات الإنسانية المنسحقة والمثقلة بالإحباطات من أمنيات وتطلعات إلى تجاوز ما يعتمل في دواخلها من مشاعر القصور والعجز والدونيّة باتجاه تجديد الفعل في الواقع الموضوعي وتحقيق تفوّق مرجوّ ومأمول فيه.

وهذا بالتحديد ما تتوفر عليه تمثيلا لا حصرا سيرة الوليّ سيدي علي بن إبراهيم الملقّب بالآغا والمكنّى بـ [ابي تفاحة من الطرافة والجماليّة وخصوبة المخيال الشعبي في اجتياف القصص العجائبي.

 

  1. هوية الوليّ سيدي علي الآغا:

في هويته حسب مصادر سيرته الأنموذجية أو المثالية، وهي سيرة شفويّة بالأساس، اختلاف كما هو بالتالي في في أصله وعهده، نكتفي في تتبّعها بالوقوف على روايتين:

أ- تقول أولى هذه الروايات، وقد أوردها محمد الأصرم وفيكتور سارّ Victor Serres في بعض هوامش ترجمتهما لكتاب ” المشرع الملكي في سلطنة أولاد علي تركي” لمحمد الصغير بن يوسف( ت 1772) إنه كان يُدعى الشيخ سليمان التميمي، قدم إلى باجة من بلاد القبائل(الجزائر)، وغالب أبطال هذه الجهة الأسطوريين يأتون من الغرب، واستقر بها انطلاقا من عام 1621/1030 أي في فترة الدايات والبايات المراديين، وكان له من العمر آنذاك عشر سنوات، وسكن في دار القلوعي خارج باب الرّحبة، أحد أبواب مدينة باجة العتيقة، وهو الباب الذي سيحمل إسمه فيما بعد.

ب- أما ثاني هذا الروايات، ويوردها الأب لويس Père Louis ، فتجعل للوليّ أصولا مشبعة بشحنات من القداسة واضحة سواء من حيث المكان أو من حيث الزمان، إذ تجعله ينحدر من الجزيرة العربية، حيث البقاع المقدسة، وتضبط لمقدمه إلى هذه الرّبوع التي كثيرا ما استهوت المتصوفين للسياحة بها تاريخا له أكثر من دلالة، إنه زمن الإمام المهدي أي فجر العهد الفاطمي، القرن الرابع للهجرة.

فهل تكون للوليّ أصول علوية خصوصا أنّ إسمه في هذه الرواية مثلما هو شائع في المتداول الشعبي الشفوي اليوم سيدي علي بن إبراهيم ؟

على أنّ ما تتفق المصادر عليه، جميعا، وكلّها مصادر منقبيةHagiographiques، نقطتان:

– أولاهما أنّ الرجل لم يكن من أهل الولاية وإنّما كان رجل علم تصدى للتدريس منذ مطلع شبابه إلى أن اكتسب بعمله شهرة جعلته مثابة الطلاب وكعبة القصاد من كافة أنحاء البلاد، ولن يستهويه الزهد والتنسك إلا في وقت لاحق من تاريخ حياته إذ قرّر ذات يوم الانعزال بإحدى القمم غير البعيدة عن البلد لعلها رباط المسيد حيث دأب الغرباء والصّالحون على الاعتكاف والاحتراس والمرابطة.

-أما ثانيتهما فتتمثل في أنّ الشيخ الشاب، على وقاره، كثيرا ما كانت تستهويه رياضة الوقت: كرة العقفة، وهي لعبة تشبه الهوكي حاليا، هي عبارة عن كرة يتنافس اللاعبون تقاذفها بعصيّ معقوفة الرؤوس دأب الأهالي على ممارستها عصر كل يوم عند أعتاب “باب الرّحبة “، في منبسط من الأرض فسيح خارج الأسوار:

* هو المكان الذي ستنعقد في إطاره أخبار مناقب الوليّ،

*وفيه ستكون ” محنته” ومثواه،

* وفيه أيضا سيتشكّل الميسم الكرامي في شخصيته.

فهل أنّ لهذا الشغف برياضة الوقت علاقة باستقطاب المريدين؟

 

  1. سيرة الوليّ بين الواقع والعجائبي:

يستمد مقام الوليّ سيدي علي الآغا أصوله، كما هو شائع في الأرياف التونسية وحواضرها، من وقائع عجائبية بل خلابة تحيل على أسطورة التفاحة الذهبية وميثولوجيا عين الماء الجارية التي قد تكون كما هو شأن بطلها الوليّ منشأ ازدهار المدينة واطّراد خيرها، وهي أسطورة تقمّشت بلبوس إسلاميّة فيما يلوح بدليل أنّ بطلها، ينحدر من أصول عربية، حقيقة أو ادعاء، وهذه الأصول بدورها تنشدّ إلى آل البيت وبالتالي إلى صفوة أصحاب المكانة في المخيال الإسلامي العام، علاوة على أنّه يحثّ على أداء مناسك الحجّ، رُكن الإسلام الخامس.

تقول الأسطورة أو بالأحرى أخبار مناقب الوليّ:

* في يوم من أيام الأشهر الحُرُم صادف التاسع من شهر ذي الحجّة، وهو يوم “الوقفة الكبرى”، وقفة عرفة أو جبل عرفات، وهي الركن الأساسي في الحجّ، وقد كان الحجيج بعد بالبقاع المقدسة، مرّ بجانب الشيخ – الشّاب، وهو بباجة، رجل غريب قد بلغ من العمر عتيا، تعتّم الأسطورة على إسمه ولا تذكره إلا بأصله الجغرافي،

* كان الرجل يبكي، ولا بدعة وهو القادم إلى مدينة باجة منذ سنوات من جهة تُقّرت جنوب شرقي الجزائر، وقد أخذ منه الشوق إلى زيارة مهبط الوحي كلّ مأخذ ولكن أعدمته الحيلة والوسيلة.

* وحال معرفته بما ألمّ به ناداه فتى الثمانية عشر ربيعا الشيخ سليمان قائلا:

راغبا في زيارة بيت الله الحرام؟ أوتريد حقا أن تحجّ؟

وحين ردّ العجوز الفقير بالإيجاب طلب منه الشّيخ أن يغمض عينيه، ففعل، فتولّى بكل رفق دفعه قبلة وهو يردد: اذهب فإنّ لك أن تحجّ وتؤدّي المناسك.

* وفي لمح البصر فتح الرّجل عينيه ليجد نفسه بجبل عرفات.

وهكذا أدّى المناسك والزيارات.

* وما إن أتمّ الحجّ والعمرة حتى التقى ببعض حجيج باجة الذين حمّلوه رسائل إلى أهاليهم لنيّتهم في التأخر بالعودة إلى مدينتهم.

*وفي الحين ظهر له الفتى القبائلي من جديد، وقد كان الحاجّ العجوز يفكر بلا شك في مسالك الإياب بعد ما جاءت به ” قدرة الله ” وفقا لما قال لأعيان الحجيج في رحلة الذهاب، وتوجّه إليه بالسّؤال ثانية: إنك تريد يقينا أن تعود الآن إلى باجة. ولمّا ردّ بالإيجاب طلب منه مجددا أن يغمض جفنيه، وبدفعة رقيقة من يد الوليّ مثيلة للدفعة الأولى وجد الرجل التقّرتي نفسه بغتة في باجة.

* وفي الأسواق سأله النّاس ممن افتقدوه: أين كنت كل هذه المدة؟ فأخبرهم بأمر حجّه، فلم يصدّقوه وسخروا منه ورموه بالجنون، ولكي يقنعهم استظهر لهم بالرّسائل التي استأمنه عليها حجّاج البلد بمكة، فأفحمهم وبُهت المتخرّصون والمُرجفون. * وشاع أمر هذه الأعجوبة حتى بلغ قضاة المدينة فقاموا باستحضار الرجل واستجوبوه وحققوا معه وسألوه كيف توصّل في عشرة أيام إلى الفراغ من رحلة تتطلب في بعض الأحيان عاما كاملا، فرفض الإجابة.

ولكنه اعترف بعد إلحاح من أصدقائه بأنّ الفضل في ذلك يرجع إلى الفتى القبائلي الذي يزعم أنه من بني تميم والقاطن بدار القلوعي عند باب الرحبة، ثم قصّ عليهم بالتفصيل كل ما حدث له.

ونزولا عند إلحاحهم رافقهم إلى خارج الأسوار حيث كان الشيخ سليمان، وأشار لهم بسبابته إلى الفتى الذي كان بصدد تعاطي لعبته المفضلة، فهرعوا إليه راكضين، إلا أنه لاذ بالفرار وقفز رأسا في أوّل بئر بالمكان، فما كان من بعضهم إلا أن نزل إلى أعماق البئر لانتشاله الفتى غير أنه لم يجد سوى تفّاحة طافية على صفحة الماء؟ وهكذا التقط الناس التفاحة ووضعوها في المكان الذي اعتبر فيما بعد مقام الوليّ.

وتضيف رواية أخرى تفرّد بها جول مونتال Jules Montels بأنّ البئر التي قفز في جوفها الوليّ ولم يعثر له فيها على أثر، قد تغيّر مجراها وغيض ماؤها، لكي ينكشف قاعها عن تفاحة كانت من الذهب الخالص، وعلى هذه البئر التي بنيت في محيطها زاوية سيدي علي الآغا المكنّى ببوتفاحة تقوم قبة المقام.

وانطلاقا من هذه اللحظة الخلابة فيما يروي الجدود ستأخذ المدينة في الاتساع وسيزداد عمرانها انتشارا وستكون بها للتجارة أسواق نافقة،

أو ليس الوليّ “سلطانها”؟

وسيّد ميدانها المركزي ومركز مبادلاتها التجارية، “مولى الرحبة”؟

وحامي حماها: أسد الباب؟

كما تقول بعض النصوص المنقبية؟

 

  1. جدلية الوليّ والأمير:

يروي المؤرخ محمد الصغير بن يوسف(ت1772) بأن الأمير يونس باي نجل علي باشا ( 1735-1756) قدم إلى باجة عام 1177/ 1747 على رأس المحلة بغية استخلاص الضرائب فبادر منذ حلوله بمشارف المدينة بالإساءة إلى مستقبليه من رجالاتها وفي مقدمتهم قاضي المكان قاسم بن الشيخ حميدة المفتي: أشبعهم ثلبا وتهديدا وأمر بطردهم من حضرته وأردف ذلك كله بإطلاق أيدي عساكره في البلد يقتلون من سكانه من شاؤوا دونما تمييز أو استثناء، وينتهبون ما عنّ لهم، ولكنه سرعان ما تراجع عن قراراته الرّعناء هذه غداة إصدارها: لقد وقف عليه الوليّ سيدي بوتفاحة في المنام محذرا من مغبة إزهاق روح أيّ كان من سكان المدينة متوعدا في ذات اللحظة بتكفله شخصيا بالقصاص لأية ضحية محتملة، يقول الصغير بن يوسف:

” قيل، والله أعلم بصحته، إنّ يونس أمر العسكر عند مباته أنّ غدا اقتلوا من أهل باجة من ظهر لكم ولا تبقوا على أحد ولو كان حبيبكم، فلمّا قام يونس في فراشه طالبا بنومه الرّاحة، وقف له في منامه الشيخ الوليّ المتصرّف في الحياة والممات سيدي أبو تفاحة ونخسه بعكازه، ففاق، وقال له: والله، إن قتلت أحدا من أهل بلدي لأخرجنّ من ظهرك هذا البولادي، فقام من نومه فزعا مرعوبا من إشارة الشيخ ولا طرف بعينه نوم إلى الصباح، فأمر الشاوش أن ينبع العسكر ولا يقتلون أحدا ولا منكم أحد يضرنّ أحدا .

وبالفعل انزوى يونس باي، وقد أرهبته الرؤيا، بسرايا باردو باجة ، وظل على هذا الوجد مدة طويلة.

وهكذا يشاء المخيال الشعبي أن يمنح الوليّ أهلية “التصرّف” حيّا وميتا، وهو امتياز لا يملكه عند الصوفية إلا من بلغ واحدة من أعلى درجات سلمهم التراتبي: القطابة، وقد كان وليّنا، إذا ما صدقنا أخبار مناقبه، “قطب أقطاب”.

 

  1. 4. الزاوية وذاكرة المدينة:

يعود تاريخ بناء الحيز الأقدم من هذه الزاوية إلى القرن XVII في حين يرجع تجديد معظم مبانيها إلى القرنين XVIII و XIX أي الفترة التي عرفت فيها الحركة الصوفية أقصى مدّها الطرقي بهذه المنطقة وتحديدا في عهد كبار أعلام التصوف المحلي:

سيدي الجيلاني البلاقي نجل مؤسّس الزاوية الأولى للطريقة القادرية بالبلد عام 1780 وهي زاوية الخضارين،

وسيدي امحمد القشّون،

وسيدي الحاج ميلاد الجواني الغربي العلمي الشريف( ت1843) مؤسس الزاوية القادرية الثانية بباجة عام 1812.

وفي بداية القرن XX اتخذها السكان مسجدا جامعا للمالكية وتحديدا خلال فترة إعادة بناء الجامع العتيق بالمدينة (1912-1917)، ووافقت جمعية الأوقاف سنة 1935 على بناء أربعة (4) أقسام بها تابعة للمدرسة العربية الفرنسية، وانتصبت في مجمل مبانيها بداية من عام 1940 المدرسة القرآنية الرشاد التي تحولت في 18 سبتمبر 1959 إلى مدرسة ابتدائية فمعهد حر لتفسح المجال لاحقا لبعض مصالح البلدية ولاحتضان متحف العادات والتقاليد الشعبية وكأن الزاوية تأبى إلا أن تكون على الدوام فضاء وظيفيا، قد تكون الوظيفة مقدسة وقد تكون دنيوية إلا أنّ عمقها يظل دائما الإنسان.

 

  1. الكرامات والخوارق دال اجتماعي:

يحظى الوليّ سيدي علي بن إبراهيم، وهذه هي الصيغة التي شاع بها إسمه وتداولتها له الحجج العادلة ورسوم الأحباس وأرشيف العدول عامة، بمكانة متميزة داخل التصنيف المنقبي ولاسيما الشعري منه،

– فقد خصّه الإمام محمد المنزلي (ت 1248/ 1832) بالتنويه في بعض قصائده ومنها قصيدة “مدحة رجال باجة” حيث قال:

ومنهم أبو تفاحة المرتقي إلى مقامات، عزّ بحره لا يُعام

– وأشاد الحاج ميلاد الشريف( ت 1259/ 1843- 1844) أ شهر شعراء المديح الديني في عصره بمناقبه في أكثر من قصيدة تحتفظ بها المدوّنة المدحية المعروفة بـ “السّفينة”، من أهمّها النصّ المفرد الآتي ويحتوي على مادة ثرية من المعلومات والرّموز الموضوعية جاء فيها قوله:

قطب الأقطاب بوتفاحة صيد الباب، عون المصاب، إيجاني وافتح لي الباب

يا بوتفاحة، من زارك يمسى في راحة، يا عزّ مراحه، زاويتك تحمي الهُرّاب

يا صيد الرحبة، يا محرّم، يا عالي النّسبة، يا مولى الرّتبة، ومقامك عامر مُهاب

مقامك ما صار، يعجبني ديما مسرار، غوث المُبار والفقراء واللي حُضّاب

***

يا ما أكبر فوزه، زاويته شِرهة محيوزة، كسوة مطروزة، وسناجق من غير حساب

يا عز بلادك، عاتي بسلاحك وزنادك، احمِ نشادك ما تغفلشي الوقت خياب

في فضلك نشكر، بين الأولياء نتفخّر، كن لِيَ مسخّر، واجعلني ديما غلاب

يا آغـــة بــــاجة، بحرك بأمواجه، قضّاي الحاجة، رحمة للزّاير حضّاب

بالله واسمعني واسقيني شربة تنفعني، واللي يفجعني، اجعل بيني وبينو حجاب

غوث المضرور، يا الآغة، ماك المشكور، في الحقّ نغور، عادل في حُكمك، مُصاب

وينك يا الآغــــــة، من آذاني، خوذ دماغه، خليه مراغة، مكّن له ضرب النشّاب

راني مُضام، ننده على طول الأيام، قلبي خمّام، ملجئي ربّ الأرباب

عييت ننادي، ونفزّع في رجال بلادي، أعطوني زادي، نرجاكم وإلا غِيّاب

ولدك متحيّر، من عكس الدنيا متغيّر، من حين صغيّر، نرجاكم لين راسي شاب

 

تنبئ سيرة وليّنا المثالية والنصّ المنقبي المرافق لها، بما هما مشبعان بالدوال المشحونة بالرّمز أساسا، بما أهمّه:

  • أنّ الخوارق والكرامات بقطع النظر عن إمكانية كونها امتيازات روحية محتملة تمنحها الذات الإلهية للصفوة من عبادها تبقى عمليا وسائل لسيطرة الإنسان الخرافية على الواقع الممتنع عليه وآليات للتحكم السّحري بالمصير المنفلت، طرقا يتذرّع بها الإنسان المقهور ويضع في رموزها الأسطورية على حد تعبير علي زيعور آماله كما يسقط عليها انجراحاته بغاية إعادة التوازن إلى حياته وإدخال الطمأنينة المرضية في ذاته.

*وأنّ الجماعة تتماهى مع شخصية الوليّ بمعنى أنّها تفرزه أولا كمعبّر عن أمانيها ثم تستوعبه وتقدّسه بل إنها لا تلجأ إليه إلا لأداء وظيفة تفريجية تخدم اتزانها وتعوّض عجزها وتشبع لديها حبّ القدرة والإنسانية التي تطال أعماقها، انظر في ذلك على سبيل المثال رجعة الكرامة في الأوساط الرياضية ومدى حضور الشخصيات المقدّسة في شعارات الجمهور ومرجعياته .

* وأنّ شيخ الزاوية أو المُرابط قد ظلّ في الضّمير الدّيني الشّعبي الزّعيم الأمثل والمثل الأسمى للعقيدة المناضلة، فهو ” البحر ” الذي يحيط بالمعرفة الشاملة، وهو المنقذ من الشدائد، وهو الحاكم العادل، هو صرخة المضطَهَدين وصوت الحقّ وثأر المستضعفين ومؤمّن المستغيثين وحامي المستنجدين به من جور السلطة واعتباط أصحاب القوة والنفوذ: الباي، القاضي، الفقيه، الوجيه …

* وأنّ قيمة وليّنا قد تزامنت فيها الأهميّة العلمية والأدبية والمثل السلوكي الأنموذجي من خلال تجرّده ونزاهته مع نجاعة ولايته العملية الخاضعة للعجيب والخلاب بصورة ملموسة،

*وأنّ مؤسسة الزاوية تتمتّع بمساحة من الحصانة لا تكاد تقف عند حدّ وإمكانيات ردعيّة جعلتها مؤهّلة للقيام بالأدوار الأولى اجتماعيّا وسياسيّا فضلا عن مجال تنفّذها النفسي والرّوحي، ولوقوفها بالخصوص من المجتمع مواقف الدفاع والحماية والتوجيه، وسلوكها معه مسالك الرّحمة والتّضامن، فقد توطدت الأواصر بينها وبين الفئات المحرومة بالخصوص . *وأنّ تقديس المكان من حيث تجلي المقدّس فيه إن هو في عمقه إلاّ تقديس للإنسان، وبالتالي للحُلم، للمنشود الإنساني في اكتساب القدرة المطلقة والخروج من طور المحدودية والنسبية. ولم يكن من المتسنّي للوليّ أن يستمرّ رغم غيبته عبر طقس الماء، وهو هنا رمز عبوري إلى حياة جديدة هي حياة الأبد والتمام والمطلق، راشخا داخل اللاّوعي الشعبي، فعّالا في الواقع والمخيّلة على السّواء لولا استيعاب شخصيته للتطلعات الإنسانية الكبرى إلى تجاوز الذّات والمعاصي واقتحام الحدود والأسوار والإمكانات وتكريس الأنموذج،

* وأنّ الخطاب الأسطوري الذي تروّجه هذه المدوّنة، أي أخبار المناقب، على حد تعبير مّطاع صفدي، عندما يخلق عالما خرافيا متكاملا من شبكة الحكايات المستحيلة يجعل ثمة إمكانية لتحقيق هذه الحكايا بالذات لأنه وإن كان يقدّم حلولا تخييليّة فإنّها تظلّ باعثة على إزاحة الواقعي المرفوض، المقاوَم واستبداله بالواقعي المُغاير المأمول باعتباره إمكانا حقيقيا في المستقبل.

أ. زهير بن يوسف

Comments (0)
Add Comment