إسهام الشمال الغربي التونسي في مقاومة الاستعمار

عملية وادي الزرقاء في مرايا الاستعمار:

إسهام الشمال الغربي التونسي في مقاومة الاستعمار:

أرياف باجة أنموذجا

د. زهير بن يوسف

تعتبر انتفاضة أرياف باجة عام 1881 حدثا سياسيا وعسكريا  على قدر كبير من الأهمية في تاريخ تونس المعاصر بما هي شكل شعبي من أبرز  ردود أفعال الأهالي على حدث الاحتلال وصورة من أعلى أشكال المقاومة المسلحة المحلية للظاهرة الاستعمارية في الأرياف التونسية منذ بدايات التسرّب العسكري الفرنسي للبلاد وإعلان نظام الحماية.

  1. عملية وادي الزرقاء في مرايا الاستعمار:

يقول ديبوس أحد مهندسي شركة بون – قالمة في التقرير الذي كتبه بتاريخ 3 أكتوبر 1881:

انطلق القطار  رقم 2 من باجة على الساعة 4.30 صباحا محملا بالجنود في اتجاه وادي الزرقاء، وفي النقطة الكيلومترية 102 أصابت طلقتان مؤخرة القاطرة، واشتعلت النيران في عربة أخرى، بينما كان 40 فارسا يصعدون خلال تلال الضفة الشرقية لوادي مجردة وقد نزل الأرض 40 جنديا حيث وقع تبادل إطلاق النار وشوهد العديد من (المتمردين) يسقطون وقد تمكن القطار من التقدم ومر بالقنطرة رقم 11 وقد كانت أرضيتها تحترق.

وعند مرور القطار بالقنطرة رقم 10 كانت النيران تشتعل بها، وبحجرة المراقبة بالنقطة الكيلومترية 98، وقد وضعت في عرض السكة على بعد 400 م من القنطرة كومة لجاف مما أجبر القطار على التوقف فتعرض في الحين إلى إطلاق الرصاص من (عرب) كانوا كامنين، ولم يواصل سيره إلا في 5.15 مع استمرار الطلق في اتجاه (المعتدين).

بعد 5 دقائق وعند المرور ببيت المراقبة 29 الذي حرق يوم 30 سبتمبر وكانت الحشائش تغطي الخط عند المزلقان حيث رفعت السكة اليمنى، ورغم محاولة إيقاف القطار خرجت القاطرة مدفوعة بالعربات الخلفية عن السكة، وفي الحين استقبلها (العرب) بوابل من الرصاص وقد قفز كل الجنود أرضا واتخذوا مواقعهم للرد  على الهجوم، وتواصلت هذه المعركة حتى 6.15 وقد ذكر الفني سي التركي، وهو شاهد عيان، أنه لاحظ سقوط 12 شخصا من (العرب) لكن يصعب تقدير خسائر العدو لأن العديد من (المتمردين) كانوا مختفين وراء الأشجار، من جانبنا جرح 3 جنود أحدهم في حالة خطيرة و رضّ السائق ماكوتا في جبهته …

  1. مقاومة منظمة وانتفاضة عارمة:

لم تكن  هذه العملية رد فعل عفوي وتعبيرا محليا محدودا عن غضب وإنما كانت عملا مُنظما وتجسيما لإرادة مقاومة  وتنفيذا لقرارات “ميعاد سبيطلة” ليوم 1881/8/15 الذي حضره إلى جانب علي بن عمار العياري، القائد العام للانتفاضة، بعض قياد العروش ذات الوزن الديمغرافي الهام مثل أحمد بن يوسف، قايد أولاد رضوان من الهمامة، والحاج الحراش قايد أولاد ناجي من الفراشيش، ومحمد صالح دبيش قايد أولاد عمار القبالة … مما أفضى إلى تعبئة قوات تتراوح تقديراتها بين 2000  مقاتل في بداية الانتفاضة و 1000 مقاتل عند منتهاها.

= فنحن إذن إزاء انتفاضة منظمة ذات قيادات واضحة واستراتيجيا قتالية مضبوطة ينطق حجمها والمجال الجغرافي الذي شملته انها لم تكن مجرد حادثة وإنما محطة من محطات المقاومة المحلية بالأرياف للظاهرة الاستعمارية.

ومن الحيثيات التي تقطع بوجود استراتيجية مبكرة للمقاومة منذ الأيام الأولى للغزو الاستعماري ضبط  عدد من قطع السلاح كانت مدسوسة في أكياس لشحن الحناء  في القطار الذي كان متجها من العاصمة إلى جندوبة عبر مجاز الباب ووادي الزرقاء وباجة، ضبطت منها بتاريخ 1881/4/21:   12 بندقية+ 3 سيوف.

وقد تمظهر هذا الجو المشحون بالمشاعر العدائية إزاء الغزاة بعملية الاغتيال التي تم تنفيذها بمدينة باجة يوم 12 ماي في جوار زاوية سيدي عبد الله الشريف عند أعتاب القصبة واستهدفتLeo Seguin المسؤول عن خط التلغراف.

  1. لماذا استهدفت الانتفاضة هذا الخط الحديدي؟

كانت السكة رمزا للهيمنة الأجنبية مثلما كان جوارها الجغرافي من خلال ممتلكات شركة بون ـ قالمة الحديدية رمزا للاستحواذ العقاري ورمزا للعدوان والظلم الاستعماريين، ضرب الثوار بين محطة قنطرة طراجان Pont Trajanجنوبي باجة ومحطة وادي الزرقاء لأن هذا المجال كان واحدا من أهم مناطق التسرب الاستعماري بالشمال، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون بؤرة من بؤر المقاومة.

ثم إن رد فعل الأهالي لم يكن حادثة معزولة بقدر ما كان إفرازا لمسار  من الصراع بين السكان المحليين والمصالح الأجنبية يرجع إلى ما قبل انتصاب الحماية ذلك أنّ

الشركة المذكورة قد لقيت معارضة شديدة من الأهالي منذ 1879 ولا سيما بكل من طبربة ووادي الزرقاء.

  1. الأهالي والإصرار على المقاومة:

لم تكن انتفاضة وادي الزرقاء حادثة معزولة لاعتبارات موضوعية عديدة منها وقوعها بين الحملتين العسكريتين الكبريين لاحتلال تونس: حملة ربيع 1881 وحملة خريف 1881، ومنها أنها كانت مسبوقة منذ شهر أفريل بحوادث منفصلة تراوحت بين إطلاق النار على الغزاة  وتخلي العمال من الأهالي عن مراكز عملهم وخاصة بوادي الزرقاء  فضلا عن تكرر محاولات تدمير الخط الحديدي.

ومما يسترعي الانتباه أيضا أنّ هذه الانتفاضة التي بدت انتفاضة قبائل قد استقطبت إليها أعيانا محليين بحيث كانت معبّرة  بشكل أو بآخر عن إرادتهم وتحملوا بالخصوص تداعياتها في ممتلكاتهم وأرزاقهم بما طالهم على إثرها من خطايا ومصادرات زيادة على العقوبات السالبة للحرية بحيث يمكننا أن نتحدث عن تحالف بين الممثلين التقليديين للسلطة المركزية ورعاياهم من ابناء القبائل على الرغم مما بين الفئين من تناقض في الموقع الاجتماعي لجسيد إرادة واحدة موحدة كانت  مقاومة المحتل.

فقد شاركت في الانتفاضة عروش أولاد عيّار ، ورياح ، وجلاص ، ودريد ( أولاد عرفة ) ،والهمامة ، والفراشيش ، وماجر ، وأولاد بوسالم ، وأولاد مرعي، ومزوغة يتقدمهم الحاج محمد بن فرحات شيخ بني مرعي والحاج عمار المزوغي شيخ مزوغة وعبد الله بن فرحات شيخ الهمامة وعثمان الحامدي شيخ أولاد أحمد من أولاد عيار، يضاف إلى هذا التحالف القبلي تعزيزات من قبائل  بني رزق، وفطناسة ، وأولاد جوين ،وأولاد العامري وأولاد بن بشر، والخمايرية ، ومقعد و٦5ثماكنة و مدورة في الانتفاضة قياد ومشايخ وخلفاوات إلى جانب بعض العدول تذكر وثائق الأرشيف منهم: الحاج محمد بن فرحات شيخ أولاد مرعي والحاج عمار المزوغي شيخ مزوغة

وعبد الله بن فرحات شيخ الهمامة وعثمان الحامدي شيخ أولاد أحمد من أولاد عيار وبلقاسم بن إبراهيم شيخ مدّورة

والشيخ العماري بن السلامي ، شقيق القايد أحمد بن السلامي

والحاج أحمد بن المالكي والشيخ علي بالضياف.

  1. الوقائع الكبرى للانتفاضة:

5.1 يوم الجمعة 30سبتمبر 1881

انطلقت أولى عمليات المقاومة المسلحة عند الكلم الحديدي 101 على مقربة من الجسر الروماني جنوب شرقي باجة، محطة Pont Trajan المعروفة آنذاك باسم محطة باجة   والكلم 86 على بعد كلم واحد من محطة وادي الزرقاء، شارك في هذه الحملة التي انطلقت من جبال الصخيرة عشرات المئات من الفرسان قدرتهم المصادر الاستعمارية بحوالي 500 فارس كان يتقدمهم القائد  الميداني للعمليات أحمد بن عمار العياري:

–  على الساعة 10 صباحا تقريبا  انطلقت الهجمات على معدات الخط الحديدي الاستعماري ومراكزه ومحطاته وأعوانه كما تم تخريب السكة وقطعها في العديد من النقاط  على امتداد ما لايقل عن 20 كلم.

كما تم إحراق محطة وادي الزرقاء بالكامل وإتلاف معداتها.

واستمرت الإغارات من قبل الثائرين مشاة وخيالة إلى آخر النهار رغم وصول تعزيزات عسكرية  فرنسية من سوق الخميس. وكانت حصيلة معارك اليوم الأول لدى الجانب الفرنسي7 قتلى وخسائر فادحة في المعدات والمنشآت،

ولم تسجل في صفوف الثوار خسائر تذكر.

5.2 يوم السبت 1أكتوبر 1881

لم تثن التعزيزات العسكرية التي وصلت إلى محطة الجسر الروماني عبر سوق الخميس وقوامها 25 جنديا رجال المقاومة عن تنفيذ عملياتهم ضد أهداف العدو، ولن تتمكن القوة التي صارت متمركزة بمحطة باجة – المحطة ( 45 جنديا ) من صدهم، ولذلك  ستتواصل معارك اليوم الثاني للانتفاضة من طلوع الفجر  إلى الغروب.

كانت سيطرة الثوار الميدانية على مجرى الأحداث تامة مما استدعى تعزيرات فورية  من جانب السلطات العسكرية الفرنسية: تم استنفار قوة عدتها 600 جندي  يتقدمها عدد من  سامي الضباط أرسلت على الفور إلى ساحة العمليات إلا أن هذه القوات التي انطلقت من معسكر منوبة لم تتمكن البتة من تخطي محطة مجاز الباب  حيث كان الثوار يعسكرون. كانت عمليات المقاومة في ذلك اليوم قد بدأت منذ الفجر بغارات للثوار شنت مجددا على محطة وادي الزرقاء، وتقول بعض الروايات إن هذا الرتل العسكري ولئن استطاع بعد انسحاب  تكتيكي من الثوار أن يصل إلى محطة وادي الزرقاء  ومنها مساء إلى محطة الجسر الروماني جنوبي باجة فإنه لن يتمكن من العودة بسهولة إذ كان عليه أن يجابه على امتداد ما لايقل عن 6 كلم وفي جنح الظلام رصاص المقاومين، من يمين السكة الحديدية وشمالها.

وقد قدرت المصادر الاستعمارية عدد المشاركين في هذه المعركة بـــ200 ثائر . بحيث وقع رشق هذا القطار العسكري رشقا كاملا بالرصاص دون أن يتجرأ من فيه من الجنود المحتلين على مغادرته والدخول في مواجهة مباشرة مع المقاومين.

عند النقطة الكيلومترية 95 اضطر القطار إلى التوقف عن السير حيث كان الخط الحديدي منسوفا بالكامل مما اضطر السلطات العسكرية إلى الاستنجاد بمركز قيادتهم  بحيث لم يتمكن الجنود المحاصرون من مغادرة الكلم 95 إلا بعد أن وقع إجلاؤهم عن طريق قطار آخر أرسل إليهم خصيصا من العاصمة.

وكان يوم 1 أكتوبر يوما آخر مشؤوما  على سلطات الاحتلال:

645 جنديا فرنسيا مدججين بالسلاح ينهزمون أمام مقاومة شعبية  تتصدى لهم بأسلحة تقليدية في نهاية الأمر

3.5 يوميات الأحد 2 أكتوبر

نستشفها من تلغراف أرسله كبير ضباط كتيبة وادي الزرقاء للجنرال لوجيرو Logerot أكد فيه أن رتل الغزاة قد تمت مهاجمته من قبل مجموعة من الفرسان والمشاة  تقدر بحوالي 1000 رجل حاصرت الرتل من كل الجهات، وأن  القتال إستمر إلى الساعة السابعة مساء وأسفر عن سقوط 3 جرحى  وقطع الخط الحديدي من جديد.

  1. حصيلة الانتفاضة وتداعياتها:

إذا كانت الوثائق الأرشيفية ضنينة  بالمعطيات التي من شأنها أن تفسر لنا الأسباب المباشرة لتراجع الانتفاضة أو تقلصها في مستوى مجال تحركاتها الجغرافي فإنها ثرية بإخبارنا بأصدائها وتداعياتها محليا ومركزيا لدى الأوساط الأهلية ولدى السلط الاستعمارية وممثليها المحليين على السواء

1.5 شهداء بلا أسماء

من سوء الحظ أننا لم نقف على إسم أي واحد من شهداء هذه الانتفاضة رغم تحولنا في أكثر من مناسبة إلى وادي الزرقاء و ربوعها محاولين النبش في ذاكرة شيوخ أولاد عرفة بالخصوص عما تيسر من اسماء هؤلاء الأبطال الذين سقطوا في وقت مبكر في ساحة الشرف فضلا عن  عديد الشهداء الآخرين  يصعب تقديرهم   بحسب المصادر الفرنسية سقطوا عند النقطة الكيلومترية 102 في مواجهة مباشرة ولكنها كانت بالتأكيد غير متكافئة بين 40 من جنود الاحتلال مدججين بالسلاح من أعلى رؤوسهم إلى أخمض أقدامهم و40 مقاتلا من الأهالي كانوا يحاربون ببنادقهم العتيقة.

أليس هولاء الشهداء جديرين بنصب تذكاري يقام لهم بوادي الزرقاء تكريما و وفاء؟

شهداء انتفاضة وادي الزرقاء عددهم الأدنى حسب تقرير 1881/10/3 وهو نص الوثيقة التي انطلقنا منها، على ما لدينا حولها من تحفظات، لا يقل عن 26 شهيدا عند حجرة المراقبة رقم 12 إلا أن بعض المصادر الأخرى ذكرت بعد يومين من تراجع الانتفاضة سقوط  80 مقاوما مما يشي بطبيعة الصراع اللامتكافئ الذي حدث بين المقاومة الأهلية وقوات الاحتلال.

2.5 خطايا وغرامات مالية

تفاوتت مقادير الخطايا من 100 ريال إلى 20.000 ريال وقد طالت 64 شخصا نذكر منهم الحاج محمد بن فرحات المرعي

ومحمد بن عمار بن علي المرعي من أولاد مرعي، والحاج عمر  بن محمد المزوغي والفرجاني بن محمد المزوغي من مزوغة

وأحمد بن سالم من وادي الزرقاء ومحمد بن سالم المليتي من الكاف والحاج عثمان بن عمارة من الهمامة وإبراهيم بن صالح البلطي من رياح،

= وبالتالي فإن الجزء الأكبر من الغرامات المالية تحمّله بالأساس طرفان مشايخ القبائل من ناحية وتحملته قبيلة مزوغة التي تقع مضاربها في قلب ميدان العمليات بين محطة وادي الزرقاء ومحطة مستوتة مما يشي بدور الأطر التقليدية في هذه الانتفاضة ومشاركتهم الواسعة فيها وينطق كذلك بالثقل الديمغرافي لقبيلة مزوغة من حيث عدد المقاتلين الدين شاركوا في المعارك.

3.5 النفي والتغريب

* تم نفي 20 مشاركا في الانتفاضة منهم على سبيل المثال عمارة بن محمد، صدر عليه حكم بالنفي إلى الهند الصينية لمدة 5 سنوات.

6.خاتمة

نستشف من قائمة الموقوفين على إثر هذه الانتفاضة ممن لم تذكر أصولهم القبلية وذكرت أصولهم الجغرافية  كالكاف، وتبرسق وتستور وخاصة وادي الزرقاء أنّ هذه الانتفاضة كانت بالأساس انتفاضة قبلية عبّرت عن تضامن مختلف عروش الشمال الغربي التونسي وما جاورها من عروش الوسط في مواجهة الاحتلال.

نستشف من قائمة الموقوفين على إثر هذه الانتفاضة ممن لم تذكر أصولهم القبلية و ذكرت أصولهم الجغرافية = الكاف ، تبرسق و تستور و خاصة وادي الزرقاء أنّ هذه الانتفاضة كانت بالأساس انتفاضة قبلية عبّرت عن تضامن مختلف عروش الشمال الغربي التونسي وما جاورها من عروش الوسط في مجابهة الخطر  الداهم: خطر ألاحتلال.

الاستعمارالفراشيشتونس
Comments (0)
Add Comment