راعي طفولتنا الرسميّ…
بقلم الأستاذ نورالدين الغيلوفي
حين أكون في فراشي، وفراشي زربيّة فوق حصير فوقها لحافٌ “ملحفة” وبعد أن تغطّيَني أمّي وتتأكّد من اشتمال الغطاء عليّ تلفحني أنفاس عطفها فيصيبني مثل الخدر وأكون مثل طائرة تقلع أو سفينة تنطلق في العباب، حينها تنفخ أمّي على القازة بعد أن تكشف جذوتها وتتمتم:
– ضَوْ ربّي خير من ضَوِّك وضوِّك خير من ضَوْ الشَّاطان…
تلك كانت تعويذتها تحميني بها من وحشة الظلام.. وقتها لم أكن أفرّق بين مصادر الضوء وكنت أظنّ من ظاهر قول أمّي أنّ لله ضوءا محمودا منه ضوء القازة وللشيطان ضوءا ملعونا لا أدري ما هو.. ولم أسأل أمّي، وقتها، كيف للضوء أن يكون من الشيطان.. يأخذني النوم بعدها فلا أرى الظلام.. ولا “يدور بي” الشيطان.. يقيني أنّ تعويذة أمّي تطرده …فلا أعبأ به …
القازة هي في الصرف على وزن فَعْلَة.. اسم لآلة النور في بيئة إذا غابت الشمس عنها انفرد بها الظلام…
القازة آلة مهندَسة بطريقة تقاوم الهواء لتبيث النور في البيوت.. بيوت المدر (قِطَعُ الطينِ اليابِسِ) وبيوت الوبر(الشَّعر والصوف).. ولقد سكنتُهما كليهما بين رحلتي الشتاء والصيف.. على ضوئها نقرأ وعليه نسهر.. وعليها نأكل طعام العشاء وسحور رمضان..
– برّا للحانوت .. هاتِ لترا من الغاز/القاز وبلّارة وميش ولا تنس أن تعودَ بالباقي.. وما الباقي سوى ملاليم معدودات…
تركيب الغازة يعرفه الخبراء، والخبراء هؤلاء هم من الكبار وحدهم.. نحن الأطفالَ نتمنّى تمكيننا من إشعالها أو إخفات ضوئها وغالبا ما نُغطس الميش، إذا استجاب الكبار لنا، في الغاز /القاز فيسود الظلام.. تبحث عن “الوقيد” الثقاب فلا تجده.
– امش لأمّك فلانة هات منها وقيدا.. فيسَعْ..
تخرج في الظلام فترتطم في شيء أمامك لم تره… وتمضي في سؤال الكبريت من الأجوار…
كانت القازة رفيق دراسة الابتدائيّ كلها.. لم نعرف نور الكهرباء إلّا في المبيت بمعهد الحامّة.. أشياء كثيرة عرفناها هناك في تلك السنوات السبع.. خرجنا من بداوة تريك مصدر ضوئك.. قازة يشتريها والدك من الحامّة مدينة الأضواء وشوارع الإسفلت إلى ضوء لا نعرف له مصدرا.. أطفال لا نزال على أعتاب مرحلة الأقراص والأعواد والريشة والجفّاف ومحبرة تتقاسم ورودها ريشاتنا “العربيّ و”السوري”.. قفزة هائلة كانت نقلتنا من ابتدائي القرية إلى ثانويّ الحامّة لا تشبهها غير نقلتنا إلى العاصمة.. وتلك قصّة أخرى.. كنت حين أحادث أصدقائي في العاصمة وأحوازها أقول لهم ولهنّ وأنا في السنة الأولى
– المسافة بيني وبينكم مسافة وجودية وليست جغرافية..
يسألونني:
– كيف؟
فأجيب:
– لو كنت في مثل وضعكم وبذلت جهودي التي بذلتُ لأنتهيَ إلى الجلوس إليكم لربّما كنت التحقت بكوكب آخر للدراسة فيه.. جهودي التي بذلتها لا تسعها أرضكم.. كان حديث مزاح.
في القرية لم نعرف أكثر إضاءة من القازة غير “البريميس”.. أداة أكبر من القازة حجما، وأجمل.. كنت أرى على البريميس وقارا لا أراه في القازة.. ولم يكن بوسعي أن ألمس بريميسا ولا أن أدنوَ منه حتّى.. إذا كان في كل بيت قازة أو قازات بحسب عدد البيوتات فإنّ البريميسات لم تكن في متناول جميع سكّان القرية.. قليلون هم أولئك الذين يملكون بريميس في ديارهم.. “جماعة الخارج” دون سواهم.. لا للاستعمال اليومي.. بل لمناسبات الأعراس.. كانت أعراس قريتنا “اشتراكيّة”.. يأتي صاحب البريميس به إلى أهل الزفاف.. تراه يخطر في مشيته كأنّه يمسك بمصباح علاء الدين.. نوسع له فيمرّ وكم كانت عملية إشعال البريميس باهرة.. ترى البريميس فتكره القازة وتتمنّى لو يكون في بيتكم بريميس يحتدّ به البصر وتمتدّ الرؤية.
في نهاية أسبوع من أسابيع الدراسة عدت إلى البيت فوجدت في الغرف قنوات معدنية سوداء تشبه لون الحديد سألت عنها فقيل لي:
– جانا الضو…
صارت قريتنا مدينة.. ورُكنت “أمّنا القازة” في ناحية ولم نعد نراها حتّى نسيناها وغاب عنّا عظيمُ فضلها…
في البيت أنوار كهرباء.. مفتاح الضوء كان عاليا بجانبة “بريز”.. ثقبان أسودان في محيط أبيض تلمسه بيدك فلا “يضربك” الضوء.. لا أذكر أنّ أحدا من العائلة استعمل البريز يوما.. وكم كان يغمرني فرحي حين أتسلل في النهار لأجعل لي مصعدا يوصلني إلى المفتاح لإشعال الضوء…,وقد مُنعت من فتحه عند قدوم الليل ولا قيل لي متى يكون ميعاد فتح النور…
لمّا بلغت من العمر ما يمكنني من إشعال القازة دخل النورُ قريتنا واختفت القازة من بيتنا..
حتى إذا “قص الضوء” أشعلنا للإضاءة شمعة.
الأستاذ نورالدين الغيلوفي