سبيل باب العين أو كيف نبدّد مصادر ثروتنا؟
د. زهير بن يوسف
- السبيل مُنشأة مائية عموميّة:
تنتشر داخل النسيج العمراني العتيق في كل المدن التاريخية تقريبا منشآت مائية عمومية هي الأسبلة جمع سبيل سميت هذه المنشآت حسب المصادر الإسلامية الوسيطة كذلك لأنها اتخذت لتسبيل المياه العذبة بمعنى جعلها في سبيل الله والخير وبالتالي تزويد عموم الناس بها مجانا. وإلى نفس الحقل الدلالي تنتمي كلمات أخرى مثل السبّالة وهي الحنفية العمومية أو حوض الماء الصالح للشراب والسقاية والشيشمة وهي تسميات شائعة تباعا بكل من تونس والمغرب وتركيا.
- تاريخية الأسبلة:
وقد برز السبيل كوحدة معمارية خيرية مستقلة داخل الفضاء العمراني الإسلامي انطلاقا من القرن XII/VI وانتشر خاصة داخل المجال المشرقي ببعض المدن مثل القاهرة وإسطمبول، كما انتشر في المجال المغربي بالأخص بمدينة فاس وبمدن وقرى عديدة في تونس. وقد ترافق حضور هذه المؤسسة، عموما، مع الفضاءات العمرانية التي شهدت تأثيرات معمارية تركية أو مملوكية أو أندلسية.
ومن بين الأسبلة التي ذاع صيتها نذكر سبيل السلطان الناصر وسبيل الأمير شيخو وسبيل السلطان محمود وسبيل رُقيّة دودو وسبيل نفيسة البيضاء بالقاهرة، وسبيل غضنفر آغا وسبيل حكيم أوغلو علي باشا وسبيل حاجي محمد أمين آغا وسبيل السلطان أحمد بمدخل قصر توبكابي Topkapi، وسبيل السلطان عبد الحميد بإسطنبول. أمّا في تونس فقد انصرف رجال الدولة وأعيان المجتمع إلى تشييد هذه المنشآت ولاسيما خلال العهدين المرادي والحسيني مع دخول عناصر العمارة الأندلسية والتركية في المعمار التونسي حتى صارت واحدة من أمثلة توظيب الفضاء العمراني المحلّي التقليدي، ومن أشهر الأسبلة التي تعود إلى هذا الطور نذكر سبيل صاحب الطابع وسبيل سيدي الظريف وسبيل باش حانبة وسبيل بلهوان بضاحية سيدي أبي سعيد، وسبيل سيدي عبد السلام بمدينة تونس، وسبيل وحوض سبيل برّوطة بالقيروان، وسبيل الناعورة ببنزرت، وسبيل عين البلد بالماتلين، وسبيل السوق بسليمان، وسبيل سيدي علي عزوز بزغوان، وسبيل باب العين بباجة.
- السبيل معلما معماريا:
سبيل باب العين هو السبيل التاريخي الوحيد المتبقى داخل النسيج المعماري العتيق بمدينة باجة، اضمحلت جُلّ الأسبلة أو السِّقايات أو أزيلت وآخرها سبيل باب السبعة التاريخي الذي ما زلنا إلى اليوم نشاهد بعض أحجار حوضه الصقيلة، ومن قبله سبيل باب الجنائز وسبيل بير دلنسي، ودلنسي قلب لكلمة أندلسي، وسبيل عين عَمّال وسبيل سيدي علي الهوّاري فلم يبق إلا هو.
ويمثل هذا السبيل بامتياز عيّنة أنموذجية للمعمار التركي في مجال المنشآت المائية: بُنيان مكعّب ذو ثلاث واجهات تميل نحو الاستطالة أفقيا ( 3.50م في 2.50م )، تتضمّن الواجهة الرئيسية فيه قوسا قليلة الانحسار.هذا الهيكل أشبه ما يكون بالباب أو المحراب أو بالأحرى باب المحراب، ومن ثمة فهو مقترن بنظام رمزي شديد الانفتاح ويتدعم هذا النظام بالقبة التي تعلو هذا المبنى:
يرمز المكعب المستطيل إلى الأرض بجهاتها الأصلية وفصولها الأربعة وعناصرها الأربعة، وترمز القبة إلى السماء والمُطلق، ويرمز تراكب المكعّب مع الشكل نصف الدائري إلى التقاء الأرض والسماء واتحاد المُحايث مع المُفارق وبالنتيجة التقاء الذات الإنسانية مع الذات الإلهيّة.
في قاعدة القوس أو باب المحراب تبرز مجموعة من الفوّارات يتدفق منها الماء باتجاه حوض ناتئ عن واجهة المبنى هو حوض السبيل، قسم منه كان يستقبل الجِرار والقِلال، وقسم آخر كانت تشرب منه الدواب يُسمّى مَشرَعا أو مَورِدا .
وإذا كانت جُدران السبيل فسيفساء من الحجارة الصقيلة حمراء قانية وبيضاء فإنّ حوض السبيل قد اتخذ مادته من الرخام المحلّي.
صمد هذا المعلم المعماري في وجه الزمان منذ تأسيسه سنة 1215/1800 لعدة اعتبارات منها ما يتعلق بالواقع نعني موقع السبيل المحوري داخل النسيج العمراني، ومنها ما يعود إلى المِخيال الجمعي أي القيمة الصحية لمياه هذا النّبع وهي قيمة كثيرا ما تتخذ أبعادا سحرية.
فهذا السبيل يغتذي مباشرة، أو بالأحرى هكذا كان، من نقطة مياه عذبة بل شديدة العذوبة والغزارة معا هي عين الشمس وإليها ينسب باب المكان أي باب العين، إلى هذا أشار البَكري وابن الشبّاط والحِميَري ، وهي التي قال عنها الإدريسي :” وبها، أي المدينة، عينٌ في وسطها، أي وسط البلد، يُنزل إليها بأدراج ومنها شُرب أهلها “.
وعين الشمس هذه هي العين نفسها التي صار السكان يدعونها عين باجة، في حين انحسرت التسمية الأولى إلى خارج السور لتطلق على ربض المدينة الجوفي وهو “ربط عين السّمش”.
ولعل غزارة مياه هذه العين وتعدد ينابيعها هو ما دفع بالرومان إلى بناء أحواض في جوارها لحُسن استغلالها وإحكام تصريفها ومسبح وتشييد صهاريج لتخزين مياهها وإمداد الحمامات المتاخمة بها علاوة على أماكن العبادة. وقد عاينا هذه الصهاريج العميقة عند إزالة حمام بوصندل التاريخي المجاور سنة 1991، صهاريج يبدو أنها متصلة بحنايا مدينة فاقا Vaga الرومانية المطمورة التي أثبتت الأسبار انتصاب جزء منها على مستوى باب الرحبة/ باب بوتفّاحة في الجوار المباشر لمقام الولي سيدي علي بن إبراهيم باتجاه قريشة.
ويظهر أنّ أماكن العبادة لم تتزايد بكثافة في الجِوار إلا لهذه الأسباب ذاتها وبالخصوص للتلازم بين المرافق الصحية والمنشآت الروحية،إذ ينفتح على هذه الينابيع مباشرة مسجد النخلة المعروف اليوم بزاوية سيدي عبد القادر أو زاوية الحاج ميلاد الشريف وزاوية أبي نوّالة أو سيدي بنعيسى، ولا ينفصل جامع الباي والزاوية الرحمانية عن مجالها إلا ببضعة أمتار مما يجعل المكان قُطبا معماريا وروحيا في آن واحد.
هذه المياه المعدنية العذبة ظلت إلى عهد ليس ببعيد محل تعلق السكان إذ استمرت مهنة السِّقاية في المدينة العتيقة إلى فترة قريبة، فعلى الرغم من شمول شبكة توزيع المياه لمحلات السكنى في معظمها ووجود ما لا يقل عن بئر واحدة في كل ” دار عربي ” علاوة على الماجل فإنّ السقاء أو ” السقّا ” أو ” القرباجي”، والمصطلح تركي، استمر في تواصل معهم ولا سيما أيام الصيف استبرادا وخلال شهر رمضان تبرّكا وانتعاشا.
- السبيل علامة زمنية ومجمع للذاكرة:
أنشئ سبيل باب العين في الميدان الذي يحمل نفس الإسم تحت سور المدينة وتحديدا في نقطة التقاء مسلكي بل تقاطع بين مختلف أحيزة النسيج العمراني العتيق: الحيّز التّجاري والحيّز السكني والحيّز الرّوحي والحيّز الإداري، مما يجعل منه نقطة التقاء وعلامة هيكلية ومرجع استدلال على توزيع المجال وعنصرا أساسيا مكوّنا للسّاحة العامّة، ناهيك أنه فضاء معماريّ واجتماعي وهو إلى ذلك علامة زمنيّة نقطة تكثيف للزمن، نواة تختزن ذاكرة المجموعة، تتداخل فيها عدّة أزمنة ونقاط تواصل بين أجيالها.
يضاهي هذا السبيلُ نظيرا له ينتصب بجبل المنار حيث مقام الولي أبي سعيد الباجي، وهو السبيل المعروف بسبيل صاحب الطابع إلا أنّ معلم سيدي بوسعيد أقدم من سبيل باب العين. ولئن كان الثاني أضأل وأقلّ أبعادا فإنه آنق وأظهر جماليا، وإذا كان مُبتني المَعلمين واحدا وهو يوسف صاحب الطابع وزير حمودة باشا فمن غير المستبعد أن يكون المعماري، مهندسا أو أمين بِناء، واحدا نظرا إلى محاكاة المبنيين كليهما للآخر، بني سبيل سيدي بوسعيد عام 1209/ 1795- 1795 وشُيّد سبيل باجة عام 1215/ 1800- 1801 تثبت ذلك النقيشتان التخليديتان المثبتتان في واجهة كل منهما، كما أنّ قائل الأبيات التقريضية الواردة بكل منهما يبدو واحدا، هو على الأرجح الشيخ إبراهيم الرياحي( ت1850)، باش مفتي المالكية في عصره، وقد جاء في نقيشة سبيل باب العين، وهي نقيشة منفّذة بتقنية الترصيع بالرصاص بخطّ ثُلثي، قوله ( بحر الكامل):
يا واردا من سلسبيل سبيلهِ *** ذا مشرعٌ يجب الدُّعا لمُنيله
قد شاد يوسف خوجة بُنيانه* **ورعى المُنيل على انتزاح حلوله
لو لم يجد بالعينِ في إجرائها *** مارئا ذَوبا للُّجَين بِسَيله
حدّث عن المولى الوزير ففضلِه *** أبدا يُحقق فضلُه بدليله
أبدا متى شام الثواب بمَشرعٍ *** تمتد هِمته إلى تحصيله
وإذا أراد الله خيرا بامرئ *** كانت فِعالُ الخير في تأميله
نعم السبيل فأرّخن *** الله أسعد يوسفا لسبيله
- المعلم المعماري بين الإعاقة واستثمار الزمن المختزن:
هذا السبيل لأهميته التاريخية والمعمارية تحول إلى مَعلم مرتب منذ 3 مارس 1915، شأنه في ذلك شان الباب الروماني الذي ظل قائما في جواره المباشر إلى حدود عام 1960 لما تولت بلدية المكان هدمه توسيعا للطريق العام، وشأن قوس النصر الذي ما زال منتصبا إلى اليوم في جانب يسير منه.
ولما كان الأمر كذلك فقد انصرفت إليه عناية بلدية باجة وبإشراف من المعهد الوطني للتراث سنة 1995 صيانة وترميما وإبرازا بما أعاد إليه رونقه القديم وأضفى مزيدا من البهاء على الساحة التي يتوسطها لاسيما وقد شملتها هي بدورها أعمال تجميل وتأصيل معماري ظاهرة مما جعل المكان قطبا معماريا ونقطة استقطاب سياحي ومزارا للوافدين على المدينة لأغراض ثقافية.
وفي الوقت الذي كان من المنتظر فيه أن يتم تعهد المعلم وتستعيد فيه قبّتُه غطاءها القرميدي الأخضر، على غرار قبّة سبيل سيدي عبد السلام أو قبّة جامع النخلة، انطلقت أشغال بناء طفيلي بالمواد الصلبة في الجوار المباشر للسبيل دونما احترام للمسافة القانونية التي ينبغي أن ينفصل بها أيّ معلم تاريخي، ولا سيما إذا كان مرتّبا، عن أي بناء آخر حديث. فقد اتخذت البلدية قرارا بنصب كشكين في فضاء بجانب السبيل، هو رصيف كان بوابة حمّام أبي صندل العتيق تنفتح عليه، ولكن بغير المواد الصُّلبة.
هكذا كان القرار إلاّ أنّ التنفيذ تمّ بالمواد الصلبة بحيث طمس كامل إحدى الواجهات الرئيسية لمُكعّب المبنى وتجاوز جانبا يسيرا من واجهته الأمامية وحجبه، بل إنّ سقف هذا المبنى الطفيلي الدخيل انصبّ في ضلع منه على جدار السبيل مما قد يهدد المعلم ذاته بالتصدع لأنّ أحجار هذا الجدار ليست بالمواصفات التي تحتمل صبّة. صحيح أنّ تراجع الحس المديني لدى عدد من المواطنين كثيرا ما حوّل هذا الموضع إلى مزبلة، بكل ما في ذلك من تجاوز في حق الذاكرة الثقافية والمعمارية الجمعية ومساس بالذوق العام، إلاّ أنّ واجب السلط العمومية المحلية كان يقتضي ضرورة المحافظة على المعلم وصيانة فضائه، ولكن ليس بهذا الحل الذي فضّ إشكالا صحيا ولكنه طرح إشكالا ثقافيا وتراثيا وإنّما بحلّ يحمي أصالة المعالم التاريخية ويبرز جمالية الجِوار في ذات الوقت الذي يحافظ فيه على نظافة البيئة وسلامة المحيط، وذلك بإقامة منطقة خضراء محمية بالحديد المطرّق في الفضاء موضع الإشكال على غرار ذاك الذي يوجد إلى اليوم بمدخل باب الجنايز قرب إحدى المؤسسات البنكية، وقد أثبتت التجربة أنّ بعث مثل هذه المناطق الخضراء في الأحياء الشعبية ليس ممكنا فحسب وإنما هو ناجح أيضا.
- تراثنا بين التواصل في الزمن والاستمرار المَهيض:
لمّا كان الأمر على ما بيّنا والمعلم المعماري المذكور ليس مكانا محايدا أو أخرس بالنسبة إلى أي زائر للمدينة، فما بالك بسكانها، وإنما هو في ذات اللحظة نقطة استقطاب وتوزيع تستمد قيمة وجودها من ترسخها في اللاشعور الجمعي وارتباطها بالجذور الحضارية للمجموعة المحلية بحيث يصبح مقترنا بدلالات ومَعانٍ تكونت عبر الزمن من خلال ممارسة المجموعة لحياتها في إطارها المعماري فإنّ أي تدخل في هذا المعلم أو في جواره ليس له أن يكون إلا استثمارا للزمن الذي يختزنه بحيث يغدو مثل هذا التدخل تواصلا وامتداد في الزمن بالنسبة إلى المعلم وليس انقطاعا فيه أو انبتارا أو استمرارا معوقا.
هذه وجهة النظر المعمارية والعلمية التي نتبنى وليس بإمكاننا أن ندافع إلا عنها ومن باب أولى وأحرى أن تشاطرنا فيها بلدية المكان والمعهد الوطني للتراث لاسيما أنّنا أحطناه علما بما يحدث في الإبان دون أن نرى منه تدخلا يسوّي وضعية المعلم ويتخذ الإجراءات القانونية اللازمة لحمايته، تسوية كانت ممكنة وكان بإمكانها أن تكون فورية ولكن ها أنّ “دار لقمان على حالها” رغم أننا نطوي العشرية تلو العشرية؟
د. زهير بن يوسف
تنبيه:” تراثنا،،، رأس مالنا”: هو الشعار الذي اختارته وزارة الثقافة للدورة 30 لشهر التراث.