إلغاء الرِقّ والعبودية بتونس بسِجِلُ اليونسكو لذاكرة العالم

زهير بن يوسف

عقب إقرار اللجنة الاستشارية الدولية لبرنامج “ذاكرة العالم” الطابع الكوني لتجربتها المتدرّجة في إلغاء الرقّ منذ النصف الأوّل من القرن XIX، تمّ تسجيل تجربة تونس في إلغاء والعبودية في “ذاكرة العالم” باليونسكو.و يصدر بمناسبة “اليوم الوطني لإلغاء الرُِقّ والعبودية في تونس” طابع بريدي تخليدا لهذا الحدث.

I . تاريخية إلغاء العبودية والاتجار بالبشر في تونس

تمّ إلغاء الرقّ في تونس على 3 مراحل تواصلت 6 سنوات وثقها ابن أبي الضياف في الجزء 4 من كتابه الإتحاف:

1. الأولى كانت بإصدار المشير الأول أحمد باشا باي بتاريخ 6 سبتمبر 1841 أمرا بمنع الاتجار في الرقيق واستيرادهم وبيعهم في أسواق المملكة، وهدم دكاكين بيع الرقيق ب”البِركةٌ”: سوق النخاسين بالعاصمة.

2. الثانية بإصدار أمر في ديسمبر 1842 يعتبر كلّ مولود بالتراب التونسي حُرّاّ لا يُباع ولا يُشترى.

3.الثالثة بإصدار المشير الأول أحمد باشا باي بتاريخ 28 محرّم 1262/ 25جانفي 1846 لأمر عليّ يقضي بعتق جميع العبيد في المملكة وإبطال العبودية نهائيا وبشكل مطلق.

فكانت الإيالة التونسية بذلك سابقة بعقود من الزمن للعديد من الدول الإسلامية وبعض كبريات بلدان العالم مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذها لمثل هكذا قرار بوثيقة رسمية.

على أن تنزّل هذه القرارات في مرحلة الإصلاحات الأولى وارتباطها بشخص المشير يدفعنا إلى التساؤل عن دوافعها:

1- هل هي راجعة بالأساس، على رأي ابن أبي الضياف، إلى ” ميل هذا الباي إلى الحضارة التي أساسها وملاك امرها الحرّية”، وبالتالي رغبته في مواكبة حركة تحرير الرقيق في اوروبا: اقتناعا لا خضوعا؟ مرتبطة بطموح المشير الشخصي و” توقه، إلى الالتحاق بدول الحرية” وحرصه، في إطار انفتاحه  على الحضارة الأقوى، على الظهور بمظهرها؟

2- أم هي نابعة من رغبة الإيالة التونسية في إشعار “الباب العالي” بالتزامها بتطبيق  خيارات ” الدولة الأم ” في الإصلاحات او ” التنظيمات الخيرية Tanzimet  التي من أصولها الحرية”؟ وهو إشعار ليس للامبراطورية العثمانية فحسب وإنما لأوروبا وللدول الكبرى؟

II . فصول قرار إلغاء العبودية

تكوّن قرار إلغاء الرقّ من 5 فصول، نصّ أوّلها، وهو مدار القرار والقطب الذي تدور عليه رحاه، على أن:

* ” لا عبوديّة بمملكتنا(= تونس) ولا يجوز وقوعها فيها،

* فكلّ إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه

* ومن يقع عليه ما يمنع حريّته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره”.

في حين نصت بقية الفصول، ومنها الفصل 4، على التتبعات الجزائية المترتبة عن مخالفة أحكام هذا القرار والخطايا المالية والعقوبات السالبة للحرية لكل من لا يلتزم بمقتضياته وكل” من يثبت عليه أنّه اشترى إنسانا أو باعه أو حازه بوجه الملكيّة” تونسيا كان او أجنبيا .

والواضح أن هذا القرار الجريء ، وهو من اهم إصلاحات الفترة الأولى، يعتبر في أفقه الإنساني، بما هو قرار متعلق بحرية الإنسان، قرارا تقدميا،

علاوة على انه يُعَدُّ في المستوى التشريعي إجراءً متقدما ورائدا ليس إقليميا فحسب وإنما أيضا على الصعيد الدولي. نلمس ذلك من الصدى الكبير الذي وجده هذا القرار، على ما يذكر ابن أبي الضياف “لدى أُمم الحرية” وأساسا إنجلترا.

فبِمَ نفسر هذه الريادة؟ ولِمَ كانت تونس أول بلدان العالم إبطالا للعبودية والاتجار بالبشر بنص تشريعي؟

III  هل كان القرار سياديا؟

ملاحظات ساقها محمد بن سلامة ( ت 1850) في كتابه “العِقد المُنضَّد في أخبار مولانا المشير الباشا أحمد” تبعث على تمثل مسألة قانون إلغاء العبودية تمثلا إشكاليا منها قوله:

” في عام 1841/1257 أتى كبير من نحو حاكم الأنقليز يطلب إبطال العبيد ….واشتد عزم طلبه في ذلك، ومن جملة دعاويه أن بيع العباد بالسوق غاية المهانة، وألح الأنقليز في ذلك ومعه النصارى”. بما يعني أنّ  العامل الخارجي موجود، ومن الواضح أنه كان ضاغطا.

ومما يدل على الضغوط التي مارستها الدول الأوروبية من أجل منع تجارة الرقيق:

أ. المعاهدة التي فرضتها فرنسا على الباي وهي المعاهدة التي تقضي بإبطال القرصنة على شقوف المتجر مطلقا، كما نصّ على ذلك ابن أبي الضياف، وإبطال تملّك الأسرى.

ب. وزيارة زوجة ملك بريطانيا لتونس التي تنزلت في إطار تحرير الأسرى المسيحيين والضغط على الباي من أجل الإقرار بعدم ملكيتهم وحسن معاملتهم، حسب ابن أبي الضياف،

ت. كما تنزلت حملة اللورد إكسموثExmouth العسكرية على الجزائر عام 1816 ومباغتته لتونس في عهد محمود باي، في إطار تصدي بريطانيا لنظام القرصنة البحرية في المتوسط، وتهديده بقصف ميناء حلق الوادي بالمدفعية ما لم يصدر الباي أمرا يلغي بمقتضاه القرصنة ويحرر جميع الأسرى بالمعتقلين في الإيالة، في السياق ذاته.

– فهل كان هذا الإجراء نابعا من إرادة داخلية حقيقية تدافع بحماس عن الحرية وبالتالي انعكاسا لتطور في الذهنيات؟

– أم أنه كان، على غرار عموم إجراءات التحديث السياسي والمؤسساتي والعسكري على صلة ما بالدوائر الأجنبية؟

– هل كان قرار إلغاء تحرير العبيد في تونس إذن قرارا “سياديا”؟

– أم كانت وراء هذا القرار بالإضافة إلى طموح المشير الأول ضغوطٌ أجنبية ورضوخٌ لهذه الضغوط؟

– وهل كانت للمنظمة البريطانية لمقاومة الرقّ والعبودية التي كانت متمركزة بمالطة منذ عام 1839 علاقة ما بهذا القرار ؟

IV موقف النخب العالمة؟

اعتمدت رسالة المشير أحمد باشا باي إلى علماء المجلس الشرعي،  وهي رسالة كانت للباش كاتب أحمد بن أبي الضياف اليد الطولى فيها، في اتخاذ هذا الإجراء الإصلاحي الجريء على ركيزتين:

* ” قاعدة التشوف للحرية في الإسلام”،

* وقاعدة ” المصالح السياسية”،

في إطار نوع من ” الاستقراء الاجتهادي” للمصادر التأسيسية لمواكبة متطلبات حركة التاريخ.

على أن التفاعل معها لم يكن موحدا بحيث تسهل نمذجته  وتنميطه والنظر فيه إلى العلماء ككتلة موحدة.

فرغم وجود ” علماء”، لم تسمّهم لنا المصادر، لم يكونوا، فيما يبدو، مطمئنين لشرعية القرار،  ومن ثمة اعتبروه حكما وضعيا مخالفا لأحكام الشريعة فيه ” إرضاء للإنقليز”، ليعبروا  بالاستتباع، إلى جانب بعض الشرائح الاجتماعية الأخرى وبعض القطاعات المهنية عن رفضهم له،

فإن علماء المجلس الشرعي (14 عالما بين قضاة ومفتين من النخب ” البلدية” و” الآفاقية على حد السواء منهم علي الدرويش ومحمد بن سلامة ومحمد المحجوب ومحمد النيفر،،، ) وفي مقدمتهم شيخ الإسلام الحنفي وباش مفتي المالكية، وإن لم يكن موقفهم صريحا ولا حاسما، ولا آخذا بزمام المبادرة إلا أنه كان، فيما يقول ابن أبي الضياف( ت 1874) موقفا إيجابيا  حتى أنه ما كان لهذا القرار ليصدر لولا مصادقة هذا المجلس.

ينطق بذلك موقف كل من الشيخ إبراهيم الرياحي(ت 1850) والشيخ محمد بيرم الرابع(ت 1865) في رسالة كل منهما الجوابية ردا على رسالة أحمد باي التي وجهها في عتق العبيد، حيث عبّر كل منهما عن تأييده للقرار والالتزام بتطبيقه،

فقد وصف الشيخ إبراهيم الرياحي كبير أهل الشورى هذا القرار المتعلق بحرية الإنسان بالقرار ” السديد”، معبّرا عن        ” انشراحه بما تضمنه صدرا”.

اما الشيخ بيرم الرابع فقد ثمّن القرار واصفا إياه ” بالصواب المتعيّن” معربا عن تفهمه وتحققه لما قام عليه من ” المصلحة” السياسية والاجتماعية.

بكل ما يعنيه هذا التأييد من إضفاء مزيد من المشروعية على قرار الباي والتزام أكبر مؤسستين دينيتين بالمملكة بدعم الحرية بشكلها التام ليس في هذا الملف الاجتماعي الإنساني فحسب وإنما فيما يتنزل في نفس سياقه من إجراءات إصلاحية وبالتالي تحديثية أخرى.

والسؤال الذي يطرح نفسه ها هنا:

– هل كان هذا الموقف،

* موقف الاكتفاء بالتأييد دون المشاركة والمبادرة بالتشريع،

مع وجود ” أقوال لبعض العلماء” الآخرين رافضة للقرار أصلا

نابعا، من بعض الوجوه، من رفض العلماء الخضوع لسياسة الأمر الواقع التي حاولت الدول الأجنبية فرضها على المملكة التونسية حينها؟

 أم ان الأمر يتعلق، من بعض الوجوه الأخرى، بموقف ثقافي يقوم على عدم الإيمان المبدئي بمسألة الحريات؟

– أم أن المسألة تتعلق بالطبيعة الفوقية لهذه الإصلاحات التي  ارتبطت بطموح المشير ونبعت من شخصه؟

ومهما يكن من أمر فإن إلغاء الرق بنص قانوني لم يحل تاريخيا دون استمرار الظاهرة في الممارسة الاجتماعية،

بحيث بقي النص بلا سند في الواقع وفي الذهنيات فبقي الرقيق في قصور الساسة ودُور الخاصة إلى حدود سنة 1892 تاريخ صدور قانون يجرّم الاسترقاق.

تنبيه:

صدر قانون إلغاء الرقيق بتاريخ 28 محرم 1262 الموافق ليوم الأحد 25 جانفي 1846 وليس الاثنين 26 جانفي ومن باب أولى وأحرى ألا يكون موافقا ليوم الجمعة 23 جانفي وفقا لإعلان رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ولما ورد في البوابة الرسمية لوزارة العدل ولما تم التنصيص عليه في حاشية طابع البريد الذي تم إصداره مؤخرا بمناسبة اليوم الوطني لإلغاء الرق والعبودية؟!

د. زهير بن يوسف

Comments (0)
Add Comment