الأستاذ نور الدين الغيلوفي
مقدّمة:
مهما فعل الغنّوشي فلن يرضى عنه من الفرقاء أحد.. يوما بعد يوم يتحوّل البرلمان، في عهده، إلى حلبة للرّدح وميدان للتشاتم ومضمار للسباب.. وساحة للاحتراب.. بعد أن تحوّلت الكتل المختلفة إلى كتائب لو وجدت بأيديها أسلحة لتناحرت أمام عدسات التلفزيون.. حتّى يصفّيَ بعضُهم بعضًا ويصّفق الجمهورُ المشاهِدُ للبعض المنتصر بعد أن يقع المبنى على مَن فيه وما فيه.. في مشهد الخراب الختامي…لقد نجحت كبرانة الفاشيّة حاملة لواء التجمّعيّة في استدراج الجميع إلى مربّعها:- استدرجت الكتلة الديمقراطية لتكون تابعة لها تأتمر بأوامرها وتقول ما تقول وراءها.. وخضعت لها باعتبار ترتيب التناقضات: الرئيس والثانوي.. وقد تبيّن للكتلة الديمقراطية أنّ تناقضها مع الفاشيّة إنْ هو إلّا تناقض ثانوي وأنّ المعركة معها مؤجَّلة أو ملغاة.. فانحازوا إليها كما انحاز اليسار الانتهازيّ إلى بن علي ضد ” الظلاميّة” نزولا عند فلسفة التناقضات وأولويّاتِها.. وظلّ بن علي يعيث في البلاد فسادا وبقي اليسار ربع قرن من الزمان ينامون على جنب فإذا ما تعبوا انقلبوا على جنبهم الثاني وانشغلوا بحكّ الجنب الذي أكلته الأرض.. وظلت البلاد تنتظر أن يثور لكرامتها اليسار واليسار يتلذّذ بالحكّ لا يستطيع الفكّ…وعلى نهجهم تسير الكتلة الديمقراطية بجناحيها تحصي مظاهر تناقضها الرئيس مع حركة النهضة التي ما عاد باستطاعتهم التعايش معها تحت سقف واحد.. ولحسم المعركة العاجلة يمكن التحالف مع الكبرانة لقضم النهضة والكرامة بأسنانها والتخلّي عن المهامّ القذرة لها تنجزها لهم.. “وياحي للمعارك الآجلة.. ” ضدّ الفاشية والفساد المستشري.. “عاشت ناس وماتت ناس”…الانتقال الديمقراطيّ لم يعد يعني هؤلاء بعد أن عرفوا منه خفّة موازينهم.. أمّا الثورة التي يأتي معها “الخوانجية” فقد فقدوا حماستهم لها وصاروا يلعنوها في السرّ متى امتنع عليهم لعنُها في العلن.. لذلك خفضوا لكبرانة الفاشيّة أجنحتهم، وإذا غضبت منهم وتعهّدت كرامتهم بالمشاتمة قابلوا شتائمها بأدب لا يلقاه منهم غيرُها…- واستدرجت كتلةَ ائتلاف الكرامة لتتبادل معها الهجومات.. فكانت الحرب بين الكتلتين سجالًا لا تتوقّف.. والشعب التونسيّ يتفرّج.. وينتظر.. حتى تحوّلت حياة التونسيين إلى انتظار في زمن الثورة والآمال المعقودة…هيمنت الكبرانة على المشهد حتى اختنقت الحياة النيابية وصار البرلمان، تحت الأضواء، عنوان أزمة الانتقال الديمقراطي الذي تمرّ به البلاد…وظفر رئيس الجمهورية الذي يضيق بالديمقراطية واستتباعاتها، بحجّة يستعملها لمهاجمة البرلمان الذي “سالت فيه الدماء” كما قال يوم زارته النائبة سامية عبّو في جماعة من حزبها…وصار البرلمان بمن فيه حربا على نفسه وحجّة يعتمدها الانقلابيون والفاشيون والعاجزون والنقابيون الفاسدون لتشويه لحظة الانتقال الديمقراطيّ بكاملها…
ما الذي جرى؟·
الكتلة الديمقراطية تتّهم كتلة الكرامة بالاعتداء العنيف عليها.. والدليل “خبش” على جبين نائب طريّ قد يجرحه منديل عروس…· كتلة الكرامة تنفي التهمة وترى فيها كذبا عليها وكيدا ضدّها…· البرلمان يتحوّل إلى حلبة للصراع لا مجلسا للحوار، وميدانا للاعتصامات ولإضرابات جوع الليل وقيام النهار ولمظاهرات “ديغاج” تواجَه بها كتلة الكرامة المنتَخبة من الشعب…· رئيس الجمهوريّة يدخل على الخطّ.. تخلّى عن أعماله التي لا تنتهي وتحوّل القصر الرئاسي إلى قاعة لاستقبال سامية عبّو وزوجها وأفراد حزبها وأنصارها، في انحياز مفضوح إليهم ضدّ ائتلاف الكرامة.. من قِبل رئيس جمهورية جميع التونسيي والتونسيّات.· اتحاد الشغل وجدها فرصة سانحة لتقديم مبادرته للحوار الوطني بحجّة الأزمة السياسية التي استنتجها مكتبه التنفيذيّ ممّا يحدث بالبرلمان، وبهدف إقصاء ائتلاف الكرامة الذي صدّع رؤوسهم من المشهد السياسي، ولفكّ الارتباط بينه وبين كتلة النهضة للانفراد به قبل الانفراد بها لاحقا..الاتحاد لا يحارب الائتلاف باعتباره ائتلافا مستقلًّا مسؤولا عن مواقفه، بل يحاربه باعتباره “باراشوكا” لحركة النهضة كما يلحّ على ذلك أمين عام اتّحاد الشغل المساعد سامي الطاهري في تدويناته اليومية القصيرة.. وإقصاءُ الائتلاف، في “تكتيكهم”، بات مطلبا ملحًّا لإضعاف حركة النهضة.. وتركها بلا سند…· حركة النهضة بكتلتها البرلمانية ورئيسها رئيس البرلمان في مرمى الفاشية والكتلة الديمقراطية وفي مرمى رئيس الجمهورية ومرمى اتّحاد الشغل والجهات السياسية التي غيّبتها انتخابا 2019 .. وهؤلاء يعلمون أنّ استهداف البرلمان لا بدّ من أن يمرّ باستهداف النهضة باعتبارها الكتلة الكبرى وباعتبار رئيسها هو رئيس البرلمان…
لماذا أصدر رئيس البرلمان هذا البيان؟
بعيدا عن العاطفة، يبدو لي أنّ الأوضاع وصلت تأزّمًا كان ينبغي أن يوضع له حدّ.. فكان هذا البيان الذي،- أغضب ائتلاف الكرامة حتّى صرّحت قياداته بما يفيد فكّ الارتباط مع كتلة النهضة في البرلمان وتوعّدوها في المحطّات القادمة بعد أن رأوا خذلانها لهم.. وتخلّيها عنهم في أكثر من مناسبة…- وشفى صدور خصومهم من الفاشيين وحلفائهم “الديمقراطيين” الذين نجحوا ببهلوانياتهم في فكّ الارتباط بين الحليفين النهضة والائتلاف باستصدار هذا البيان…ولكنّه في رأيي قد حقّق أمورا منها:· فكّ الاشتباك الذي تستعمله الفاشية و”الديمقراطية” ويستثمره رئيس الجمهورية في بحثهم المستميت عن ذريعة للانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي.. ووجدوا الذريعة في الأزمة التي جدّت بين الكتلة الديمقراطية والائتلاف.كان البيان فكّ اشتباك بين ائتلاف الكرامة وخصومه هؤلاء، ولكنّه قد يستصحب معه فكّ ارتباطين:1. فكّ الارتباط بين الديمقراطية والفاشية التي تنتعش من الأزمات وأوضاع الاختناق لا ترى لها وجودا خارجها.2. فك الارتباط بين رئيس الجمهورية والكتلة الديمقراطية التي صارت تابعة له وربّما صار يستعملها عينَه على البرلمان تساعده في حربه عليه، وهو الذي يرى في هذا البرلمان العقبة الكبرى التي تمنعه من المرور إلى إنفاذ مشروعه الهلاميّ…· تنقية الأجواء في سياق التحوير الحكومي الذي يستهدف زرع دماء جديدة في حكومة المشيشي تُخرجها نهائيا من جبّة رئيس الجمهورية الذي يتحيّن الفرصة للانقلاب على المسار.
التداعيات
:- فكّ الارتباط بين النهضة وحليفها ائتلاف الكرامة بعد أن أحسّ الكراميّون بطعنة في الظهر وجّهها إليهم رئيس النهضة والبرلمان الذي خضع للابتزاز فاضطُرّ إلى التضحية بحليفه.. كأنّ رئيس البرلمان قد ضحّى بائتلاف الكرامة لإرضاء خصومه الذين لن يرضوا عنه حتى بعد أن يتقبّلوا فيه التعازي…يعلم ائتلاف الكرامة أنّ المأزق صار محيطا بالجميع.. وأنّ خصومهم قد استدرجوهم إلى مربّعهم وجعلوهم جزءا من المأزق مستغلّين طهوريتهم واندفاعهم الثوريّ…
كلمة أخيرة:
منذ أيام كتب النائب عبد اللطيف العلوي تدوينة تحدّث فيها عن معاناة حركة النهضة، وحدها ، وأشاد بعملياتها الفدائية لأجل إنجاح المسار… وإذا كنتم تقرّون بأنّ النهضة تتحرّك في سياق الإكراهات تحاصرها الضرورات فلا ينبغي أن يغيب عنكم أنّ من سيق بالضرورة والإكراه ارتكب، غالبا، من الأعمال ما يكره.. وقلّما نجا مُكرَه من الوقوع في الأخطاء.
احذروا…
فإنّكم إن أنتم فككتم ارتباطكم بحركة النهضة فقد تخسر هي حليفا صادقا مثلكم ولكنّكم ستخسرون أكثر منها لأنّكم ستساهمون في تمزيق الحزام البرلماني الذي تستند إليه حكومة المشّيشي في تجاوز معاركها الظاهرة والخفيّة. إذا غلبت عليكم انفعالاتكم التي نتفهّمها بسبب ما تشعرون به من طعنة رئيس البرلمان لكم، ولم تحتكموا إلى عقولهم فستجرّون البلاد إلى أزمة ربما تنتهي بحلّ الائتلاف نفسه في استنساخ لحلّ روابط حماية الثورة التي فرضتها منظومة الحوار الوطنيّ الأوّل.. ولن يُعدَم خصومكم حيلة لفعل ذلك إذ لا قانون يردعهم ولا أخلاق تمنعهم…ليس من مصلحتكم أن تستسلموا لما وجدتم من أذى حليفكم فتفرّطوا فيه ويخسركم.. بل لقد صار مصيركم معقودا بمصيره.. فمصيركما مشترَك…ولو أنّكم صبرتم على ما شعرتم به من أذى فستكونون ورثة حركة النهضة في جمهورها الذي صار يضيق بسياساتها التي يرى فيها كثيرون منهم خرَقَها…ولو أنكم صبرتم على الأذى فسيرتفع رصيدكم الشعبي ويكون لكم وزن يضطرّ خصومكم اليوم إلى الهرولة إليكم غدا…فإذا فسدت شجرة النهضة، وقد دبّ بعدُ الفساد إليها، كان من بينكم نبات الصلاح.. فلا تهشّموا إناءكم أن يُهرَق ماؤكم وتنقلبوا من بعد ذلك خاسرين…إنّه اختبار لكم…
عسى أن تخرجوا منه من الفائزين