ريمة وجلال أو ابن آوى رسول الحب: قصة ريمة الباجية والأربعين عاشقة تدوين: جول مونتال تعريب:
زهير بن يوسف
في السهل الكبير عند سفح جبل المنشار كان مبارك بن علي، وهو رجل حمل معه السنين، قد أقام خيامه وشيد دياره، وصارت ” له الدنيا ومن أضحى عليها”. كان الشيخ مبارك قد أنجب غابة من الأولاد فقدهم جميعا، لم تبق له الأقدار إلا وحيدة: بنتا تدعى ريمة. كانت ريمة صبية الستة عشر ربيعا، سمراء فاتنة، في طرفها حور قاتل، شابة تتوقد جمالا، ” ذات دلٍّ كأن البدر صورتُها”، لا نظير لها بين بنات جنسها يدانيها ولا شبيه لها يضاهيها. * كثيرون هم الذين تقدموا طالبين يدها، إلا انّ هيام الأب بابنته وتعلقه الشديد بها حالا دونه والموافقة على زواجها: كيف يوافق على فراقها وهي كل ما بقي يشده إلى الحياة. * كان لريمة ابن خال أحبته من أعماقها، وعشقها، فهامت به وهام بها أيما هيام، وكان الفتى المتيم يسمى جلالا. رغم كل الموانع التي كانت تحول دونها ودونه والعواذل، ورغم صرامة أبيها وشدته، كان هيامها بالحبيب أقوى والهوى أعتى، وكانت الصبوة وكان الشوق، فكان اللقاء في كل وقت وحين: – بالحقول، حينما كانت ترعى الأغنام، – أو بالعين ملتقى الأحبة في تقاليد البوادي حيث كانت تذهب لترد الماء، – أو في مواعيد كانا يضربانها معا. * كان الأب ينظر بعين السخط والفزع إلى ما يحدث، متوجسا من أن يسلبه هذا القادم الجديد أعز ما كان يشده إلى الحياة: وحيدته ريمة التي أحب إلى حد الجنون. ولكن حبه الجنوني لابنته قد حال دونه وإنزال أدنى عقاب بها. * وصادف أن التقى الشيخ مبارك بقريبه، فارس أحلام ابنته جلال في مساء ذات يوم، فمنع عليه اللقاء بريمة، وتوعده: “من هنا فصاعدا، إياك، إياك ان تفكر بها”. فما كان من جلال إلا أن رد صائحا: “تريدني أن لا أفكر أبدا في ريمة، الموت أهون علي من التفكير في التنازل عن حبها”. وهنا ارتفع صوت مبارك: “إذا كنت تخيّر الموت على التخلي عن حبّ ريمة فليكن ما أردت”. وعلى الفور وجّه فوهة بندقيته الصدئة إلى صدر جلال وانطلقت في صمت الليل ووحشته المطبقة رصاصة أصابت من الفتى العاشق مقتلا فخرّ صريعا. سقط جلال بأرض اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فتضرج بساط العشب الأخضر بالدماء الساخنة. * كان جلال يهذي، وقد أحس بأنّ ساعة الرحيل قد حانت، ولكنه قبل أن يسلم الروح كان قلبه معلقا بشأن واحد: أن يلتقي ريمة، ريمة حبيبته: “ريمة! ريمة! أين أنت يا ريمة؟”. كان جلال ينزف دما لمّا اقترب منه ابن آوى، وقد جذبته رائحة الدم، فخاطبه العاشق الجريح: -“اشرب، اشرب يا ابن آوى من دمي، ارتو من دمي المسفوح كما يسفح الماء من عين مائنا الجارية، -اشف غليلك على أن تسرع في التوّ إلى ريمة هناك في سفح جبل المنشار حيث ديار الشيخ مبارك ولتبلغ ريمة، حبيبتي الجميلة أنّ حبيب قلبها قد قتله أبوها. – لتبلغها أني أموت، لتبلغها ان تسرع إليّ لعلّ الروح، على القرب، تعود إليّ. – لتكن، يا ابن آوى، سفيرا، ولتبث الحبيبة أشواقي وكلفي وجوايا. * ما إن ارتوى ابن آوى من دم جلال حتى انسل عبر الأحراش وانطلق إلى ريمة كما السهم لا يلوي على شيء، وقد ملأ الأرجاء عواء. حال اقترابه من ديار الحبيبة انطلق نباح الكلاب وكأنها تمنع ابن آوى من التقدم في طريقه إلى ريمة ولكن فطنة ابن آوى التي لا تغيب أبدا دفعته إلى الإلحاح في العواء. كانت ريمة قد افترشت بساطا ونامت بعد حينما تناهى إلى سمعها عواء ابن آوى وقد تخللته غُنّة ترشح نشيجا، فنادت وصيفتها، وقد كانت امرأة زنجية من بلاد السودان ضخمة وقوية: – فاطمة، يا فاطمة، انهضي، أما سمعت عويل ابن آوى؟ – لتبعدي الكلاب حتى يعبر إليّ، إنه رسول غرام. * انسلت الوصيفة السودانية في غلس الليل من الحجرة التي كانت تقيم بها مع ريمة وأخذت في الاقتراب من الكلاب رويدا رويدا فأوثقتها إلى وتد الواحد تلو الآخر. اقتفى ابن آوى آثار الوصيفة لينفذ إلى حيث كانت ريمة تمكث، وذنبه لا يكف عن الاهتزاز، ولمّا تفطنت ريمة إلى بقايا الدم المتجمد حديثا بفروته، لثمته ريمة وقالت له: – اذهب يا رسول الحب، وأبلغ عزيز قلبي جلال أني سأكون قربه بعد برهة، أطيب خاطره، وأخفف خطبه. فهم ابن آوى الخطاب فكرّ راجعا على عقبيه. وقبيل وصوله إلى الموضع الذي كان جلال به يلفظ أنفاسه الأخيرة أطلق العنان لعقيرته بالعواء. * كان جلال في النزع الأخير لمّا تناهى إلى سمعه العواء، تحامل على نفسه وانتصب على ركبتيه وهو يتطلع إلى الأفق وصرخ: “إنه ابن آوى وقد عاد إليّ برسالة، أو لعله جدي تاه عن أمه؟ إليّ إليّ إذا كنت تحمل رسالة حب من ريمة الرقيقة، ريمة الجميلة”. وفي هذه اللحظة بالذات اقترب منه ابن آوى، وهو ينشج، وأسرّ إليه في همس: -” لقد وجدت ريمة قرب وصيفتها، كانت تبكي، طفت بالبيت ثلاثا، لم يكن معها أي كان، لقد لثمتني وهذا ما تقول لك: إنّ الجسد منها هناك، بعيدا، أمّا الروح منها فهنا معك”. وفي هذه اللحظة وصلت ريمة. * جثت ريمة، احتضنت حبيبها الجريح، عانقته طويلا، ملأت ثغره لثما، قبّلت عينيه ثم قالت، وقد تملكها الهلع: -” حدثني، أخبرني، من هذا الذي أصابك؟ – ” إنه أبوك”. لم يستطع جلال، وقد سرى الموت في جسده الممدد على الأرض، إلا أن ينبس بهاتين الكلمتين، ثم أسلم الروح وعيناه إلى ريمة شاخصتان ولسان حاله يقول: – ” أيحدث بعدي للخليل خليل”” أيُعرض عن ذكري وتُنسى مودتي”؟ – هل تظلين على عهدك لي إلى آخر رمق؟ – أهو الوفاء أم هي خيبة الرجاء؟ * أدركت ريمة بفراستها آخر ما كان يجول بخاطر حبيبها عند النزع وقد تملكتها رغبة جامحة في الثار لحبيبها، فأخذت مشبكا من بين ثنايا حائكها وأنفذته في قلبها: – ليمت أبي، هو الآخر، كمدا. تلك كان كلماتها الأخيرة. * كان حصان جلال الأبلق يمر قرب ذلك المكان ولمّا رأى الجسدين وقد فارقا الحياة أطلق عقيرته بالصهيل وخرّ صريعا. *
كان السلوقي، كلب جلال الوفيّ باسطا ذراعيه على مرمى حجر من صاحبه، حانت منه التفاتة راعه فيها مشهد الجسدين فولّى منحدرا إلى نحبه. * من الغد أشاع الرعاة الخبر المشؤوم وأذاعوه في التلال والأودية حتى بلغ والد ريمة، فصعق لما حدث وخرّ صريعا. * وماتت تسع وثلاثون من صبايا “بلاد باجة” كن جميعا يتعشقن “جلال”، مُتن كمدا وحسرة. * وكانت هناك واحدة ظلت على قيد الحياة بعد وقوع الحادثة، وذات يوم كاشفت والدها في سعادة وعُجب: – انظر كم أنا محظوظة، يا أبي، لم يبق على قيد الحياة سواي، لقد ماتت كل اللواتي كن يتعشقن “جلال”. فصاح الأب بها: – آه لم تموتي بعد، ألا تستحين أن تكوني على هذه السعادة وتسع وثلاثين من صويحباتك قد متن كمدا وغما. لتموتي إذن أنت أيضا وليكتمل النصاب أربعين عاشقا. وأنفذ الخنجر في صدرها. * ومنذ هذه الواقعة المشؤومة صارت نساء باجة يمتنعن عن نصب الفخاخ لابن آوى رغم شهوته الدائمة إلى افتراس دواجنهن، أوليس ابن آدم رسول الحب؟
زهير بن يوسف