“جئتني بالتمر ولم تنزع منه النّوى ..”
ما سرّ شهرة هذه العبارة و من قائلها ؟؟؟
هي مقولة انتشرت عند العرب وامتدّ التندّرُ بها إلى أيامنا هذه، إلا أن الكثير منّا ليس له علم بحيثيّاتها والمناسبة التي قيلت فيها، فكما تعلمون الاطلاع على ظروف الحكاية يعمّق مغزاها ويُوسّع نطاق فهمها.
لكم القصة كاملة:
شدَّ انتباه عُمر بن الخطاب أن أبا بكر يخرج إلى أطراف المدينة بعد صلاة الفجر ويدخل بيتا صغيرا لساعات ثم ينصرف إلى بيته ..وكان عمر يعرف كل ما يفعله أبو بكر الصديق من خير إلا سر هذا البيت ..!
مرت الأيام ومازال خليفة المؤمنين يزور هذا البيت ؛ ومازال عمر لا يعرف ماذا يفعل الصديق داخله ، فقرر عُمر دخول البيت بعد خروج أبي بكر منه ؛ ليشاهد بعينه ما بداخله ، وليعرف ماذا يفعل فيه الصديق بعد صلاة الفجر من كل يوم ..
حينما دخل عمر هذا البيت الصغير وجد سيدةً عجوزا لا تقوى على الحِراك ليس لها أحد ؛ كما أنها فاقدة للبصر … فاستغرب ابن الخطاب مما شاهد؟؟!! وأراد أن يعرف ما سر علاقة أبي بكر بهذه العجوز العمياء ؟!
سأل عمرُ العجوزَ: ماذا يفعل هذا الرجل عندكم ؟(يقصد أبو بكر الصديق)
فأجابت العجوز وقالت: والله لا أعلم يا بُني ؛ فهذا الرجل يأتي كل صباح وينظف لي البيت ويكنسه ، ثم يُعدّ لي الطعام ثمّ ينصرف دون أن يُكلّمني!
ولما مات أبو بكر قام عُمر باستكمال رعاية العجوز الضريرة فقالت له : أمات صاحبك ؟!
قال : وما أدراكِ ؟
قالت : جئتني بالتمر ولم تنزع منه النوى ..
جثم عمر بن الخطاب على ركبتيه وفاضت عيناه دموعا وقال عبارته الشهيرة: “لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.”
قصصنا عليكم أثرا لا يبعث فينا سوى الاستفهام والحيرة أمام أوضاع يعيشها الإنسان اليوم ..
أفنبكي أبا بكر أم نبكي عمر ..؟ أم نبكي حالَنا اليوم على المشاعر والأخلاق التي انهارت و تدهورت. رضي الله عنهم وأرضاهم ..ورزقنا العمل الذي يقربنا الى طاعته ورضاه .
تلك هي قصة نزع النوى من التمر ..حركة بسيطة نقوم بها عند ممارسة حياتنا اليومية، إلا أن المتمعِّن في التفاصيل الحياتية يجد فيها العماد الذي ينبني عليه أُسُّ كلِّ عُلُوٍّ. فلا ضمانَ لوجودِ عُلوّ متين دون الاهتمام بعناصر تكوّن أسسه. وكذلك سلوك الرجال ومواقفهم تُعْرف بتفاصيلَ تَضبط تميّز الواحد عن الآخر وتجعل منه المثال والقدوة ، فما بالنا والحديث يخصّ القادة منا وذوي القرارات وأصحاب الفعل المؤثّر في حياة الفرد وحياة المجموعة، وما بالنا والمسألة تتعلق بسلوكات يتّخذها القائد عنوانا لاستقامته واحترامه للذات البشرية التي صرخت الأصوات اليوم عاليا مناديةً بحقوقها مطالبة بعدم إغفالها والحال أنّهم يقتتلون وينهبون. إن كان عمر قد خرج بخلاصة أنّ أبا بكر سيُتْعِب مَن يأتي بعده من الخلفاء ، فهل بقي صدى هذا الاستنتاج تتناقله العصور؟ هل نلتمس له ولو بصيص أملٍ للنّبش في خبايا أنفسٍ من المفروض أن تستقيم فيصلح حالها وحال من تتولّى إدارة أمورهم؟ أبو بكر ليس فقط تجاوز مكانة الخلافة ليخدم عجوزا يجهل الآخرون حالَها.. أبو بكر ليس فقط خدم رعيته بل خدمهم سرّا دون ندوات ودون خُطب ووُعودٍ بأنّه سـ.. و سـ..،
أبو بكر ليس فقط ترك منهجا للتعامل مع الرعيّة ودروسا في الحفاظ على رعيّة قريرة العين ..أبو بكر ليس فقط اهتمّ بذوي الاحتياجات الخاصّة واهتمّ بالمسنّين واهتمّ بالمرأة ..بل إن أبا بكر أيضا قد أتقن كلّ ما صنعه وكل ما أنجزه ولم يترك به شائبة أو نقصا : لقد نزع النوى عن التمر لعجوز عاجزة ليسْهُل تناوُلُه وليُجنّب المرأة حرج إعداد ما تأكل.
الإتقان يا سادة .. الإتقان ..وما أدراك ما الإتقان الذي بات من الخيال والمثاليات عند الكثير منّا.
إن تجسّد الإتقان في مواقف القادة وسلوكاتهم ..فآمِلْ رغد العيش .