حكاية باب ” مقطوع من شجرة”

                

زهير بن يوسف

الأبواب علامات يستدل بها العابر على الساكن .وكما للكتب أبواب وللنفوس أبواب، فللمدن أبواب وللبيوت أيضا أبوابها.

مثل كل الأبواب الخشبيّة… كنت مقطوعاً من شجرة، لم أشعر باليتم، ولم أشعر بالغضب من الجرّافة التي اقتلعتني، أو من فأس الحطّاب التي انتزعتني من أهلي بموطني الأول.

حظي العاثر هو الذي أوصلني لكي أكون “الباب الرئيسي” لهذا المعلم الروحي الجميل.

في البداية كنت أنظر لمرتاديه بريبة، وكانت خطوات الأطفال تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مدقي بعنف كلما طرقتني وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي…

وحده سيدي الطيب سيعاتب زيدا لتصرفه غير المهذب معي فيما يكتفي بالضحكات العالية لشغب عمرو.

شعرت أن هناك علاقة ما بدأت تنمو بيني وبين سيدي الطيب، كانت لمسته لي مختلفة، كنت أشعر بالدفء والأمان عندما يفتحني ويغلقني.

قام بتزييني من الخارج بعمل فني على شكل سجادة أنيقة من النحاس السميك المتين ووشح صدري بمدقين مطرّقين صنعهما صانع ليس أحذق منه ولا أمهر.

كنت أقنع نفسي أنّ المسامير المقعّرة والمحدّبة التي عُلقت على صدري لأجلي أنا وحدي.. .لا لأجل الضيوف!

كم كنت أكره بعض الضيوف والزوار الثقلاء وطرقاتهم الغبية…إلا اني كنت أكن لأحبة سيدي الطيب  حبا لا يضاهى ولا يدانى حتى وإن ” طرقوني ” بعنف أحياناً.

مرّت السنوات، وشعرت أنني أصبحت جزءا ً من هذا الفضاء، فضاء التوتة التي يتحاسب الناس تحت ظلالها الوارفة. توتة لا يعلو على الحساب تحتها أي حساب.

كنت أرى سيدي الطيب وهو يكبر، وأرى الأطفال الذين يعبرون خوختي لينالوا بركة السيد قبل ختانهم، وأراهم وهم ينزعون ثياب طفولتهم ويتحوّلون إلى رجال وقد اشتد عودهم،

وها هم يعودون إلى عبور نفس الخوخة وارتياد الفضاء نفسه لإشهار زيجاتهم.

ذات عام حزين رحل سيدي الطيب، اختطفه الموت، ورحل الأطفال بعيدا.

بقينا وحدنا: أنا وسيدي امحمد وقبة المقام السامقة.

كنت أراه وهو يذبل أمامي ويفقد نضارته،

ومع هذا كنت، كل يوم، أنتظر بفارغ الصبر لمسته لي عندما يفتحني في الصباح. كانت تلك اللمسة تشبه لمسة سيدي الطيب، بل لعلها هي،

وكم تمنيت لو أنهم صنعوني كرسيا بدلا من باب حتى ألتصق أكثر بسيدي امحمد.

في ليالي الشتاء، كان سيدي امحمد يجلس في صدر المحراب يقرأ كتابه، وكنت أبتهج لرؤيته بقربي،

ورغم العواصف والبرد والأمطار التي كانت تقرع صدري من الخارج إلا أنني كنت من الداخل أشعر بالفرح والدفء.

*

في أحد الأيام حضرت وجوه لم آلفها من قبل، ” لا المدينة” رحبت بها ولا أرباضها،

 بعد طرقات عنيفة  ضربوني بقوة.

سمعت همهمات وغمغمات وحوارا مرتبكا وهمسات وتماقلا وتخاففا وتثاقلا

تسللوا إلى حرم المقام، وبعد دقائق، خرجوا وهم يحملون السيد على نقالة، وما عبؤوا ولا بالوا أو اكترثوا،،،

خرج السيد دون أن يلتفت إلي أو يلمسني أو يودّعني.

*

مرّت سنوات لم يطرقني فيها أحد.

ولم تـُعلّق الأزهار على صدري.

كبرت ولكن صوتي ظل بلا ً صرير.

ضعفت مفاصلي ولكن دون ان يجد السوس  لأطرافي سبيلا،

تآكلت التوتة من البرد والوحشة والوحدة وتبدل الفصول وأنا في تغيرها أنا،

خدوش الزمان وخربشاته على صدري، أجل هي على صدري غائرة وعميقة، ولكن دون أن يعرف إليّ الانحناء إلي طريقا.

*

ذات صباح صيفي بارد أقبل نحوي غليظ شديد يرافقه غلام

 لا يرتفع عنه في شيء،

لم أعرف تلك الملامح. اقتربا.. لم أعرف إيقاع تلك الخطوات.

هبّ هواء شديد البرودة.

جمع الغلام بعض الأوراق المتناثرة ورمى بها عند أعتابي ليشعل نارا ً، نظر حوله، لم ير أحدا . اتجه صوبي.. وأخذ يـُكسّر أطرافي ويرمي بها !

اقتلعني من مكاني رغما ونزعني من جوار السيد قسرا.

فجثا الرتاج والعارضان حسرة وقهرا

*

من وراء السديم، هناك سمعت صوتا يردد من بعيد: 

” راني مضام،

ننده على طول الأيام،

 قلبي خمّام،

ملجئي رب الأرباب،

 عييت ننادي،

 ونفزّع في رجال بلادي،

 أعطوني زادي،

 نرجاكم و إلا غيّاب”،

وحال سكون الصوت، وقد عرفت أنه كان لسيدي الطيب،

تعالى صوت ثان، وقد كان  غضا نديا :

“ولدك متحير،

من عكس الدنيا متغيّر،

 من حين صغيّر،

نرجاكم لين راسي شاب” ؟!

ولم يكن صاحب الصوت إلا سيدي الحاج ميلاد الملقب بالأستاذ:  حامل للواء الطريقة والجامع بين الشريعة والحقيقة،

*

مانعت كسوة الصفائحُ النحاسية التي كانت توشح صدري،

مطارق النحاس المهيبة، في كل مصراع، مانعت،

المسامير مانعت، مقعرها مانع ومحدبها،

رؤوسها المدببة استبسلت،

طاقية القبة مانعت، رقبتها الدائرية مانعت، الصدفات الركنية مانعت،

الأشكال الزخرفية تشبثت،

واشتد عندها تلاصق الخطوط والمساحات

الخوخة مانعت والقمجة،

التوتة حزنت وذاب الجذع منها وجدا وتحنانا،

ألقى بي جانبا.

 لم ينقطع عني الأنين.

من هناك انطلق صوت ملائكي، وكان الصوت لفيروز:

سنرجع يوما إلى حينا،

سنرجع مهما يطول الزمان

وتنأى المسافات ما بيننا.

زهير بن يوسف

باجةد.زهير بن يوسف
Comments (0)
Add Comment