زهير بن يوسف
باجـــــة القمح: مدينة تونسية، “قاعدة إقليم” على حد تعبير القدامى، أي أنها عاصمة إقليمية، هي “حاضرة الشمال الغربي ومأوى قراه” كما يقول ابن أبي الضّياف (ت 1874)، وإضافة إلى هذا الدور فإنّ موقعها في مفترق طرق إستراتيجي، علاوة على وظيفتها كسوق فلاحية، ومدينة حصينة، ومثابة علمية، قد كرّس مكانتها المركزية في خارطة البلاد التونسية عبر التاريخ مما أهّلها باستمرار لأن تكون كعبة القُصّاد وقبلة الرُّواد ومثابة الطلاب من كافة أنحاء البلاد ويؤهلها بامتياز للاندماج ضمن الدورة الاقتصادية لكامل ما صار يعرف اليوم بإقليم مجردة بل واحتلال مركز الصدارة فيه.
إلى هذا تفطن الرومان قديما لما اعتبرها المؤرخ صالوست (35 ق. م) “مدينة الرخاء العظمى” Civitas Magna Opulens، وإلى هذا تنبه أبو عبيد البكري (ت 1094) في الطور الإسلامي المبكّر من تاريخها عندما اعتبرها “هُريّ إفريقية” وبالتالي سلّة البلاد الغذائية ومطمورها الدَّاني، تماما مثلما كانت قرطاج بالنسبة إلى روما.
ولأنها ظلت بشهادة الوزير السرّاج (ت 1737) “مناخ الأقوات في كل الأوقات” فإنّ “خيراتها” هذه، بمعنى منتوجاتها المتنوعة والوفيرة ”إذا كثُرت عمّت إفريقية” (أي تونس) ووفّتها وكفّتها “إذ هي عُمْدتها في هذا الأمر”.
وقد وقف يونس باي يوما، فرأى جبلا من القمح، فقال: هذه البلاد (باجة) وهذا المدخول للسلطنة وهي القائمة بالسلطنة.
ولذلك فلا غرابة أن نجد “الوُلاة” منذ العهد الأغلبي (800-909)، على ما يذكر ياقوت الحموي (ت 1229)، “يتنافسون في ولايتها” “ويُهادون ويُتاحفون” من أجل الظفر بها، وأن يقول فيها ابن حوقل (ت 977) منذ العهد الفاطمي (909-974) إنها “غزيرة الدّخل على السلطان” “وافرة الأرباح على التجّار والمزارعين”. وأن يقصدها التجار يوميا للتزود بكميات كبيرة من منتوجاتها الفلاحية والحرفية حتى قال فيها الحسن الوزّان الشهير بليون الإفريقي Léon L‘Africain (ت 1554) إنه كان “يَرِدُها في اليوم الواحد الألف والأكثر من الإبل لنقل المِيرة” ”فلا يزيد سعرها ولا ينقص“. وقد شهد أحد كبار المؤرخين المعاصرين وهو روبار برانشفيك Robert Brunchvig (ت 1990) أنّ باجة كانت دائما “موفورة الخيرات عامرة بالحرفيين”.
كيف لا “ولها من الغَلاّتِ والزّرُوعِ ما ليس بجميع المغرب مِثَلُهُ” كما يقول الإدريسي (ت 1165) “كثرةً وجودةً ونقاءً”، و”أرضها تجود فيها جميع الزروع” حتى قال أهل تونس: “لو كانت باجتان في سهل واحد لزادت حبّات القمح على حبّات الرّمل”؟
كيف لا وقد كانت على الدوام “ليِّنَةَ الأسعار” “أَجدبت البلاد أو أَخصبت” كما يقول صاحب المسالك والممالك؟
كيف لا وهي التي قال فيها الحسن الوزّان “إنها كانت وما تزال ممتلئة بصنوف الصناعات حتى الحياكة”؟
ولِمَ لا تكون قطبا اقتصاديا جاذبا وقد لاحظ كل الرحّالين “أنّ أهلها متمدّنون متحضّرون، ولهم آدابٌ وأخلاقٌ ونظامٌ يسوسهم، وهم مرتّبون في كافة أعمالهم وسيرة سلطانهم”؟
وإذا كان صحيحا أنها كانت توفر الإقامة للتجار الوافدين عليها بفنادقها الكثيرة، وهذا ما لاحظه البكري منذ القرن الخامس للهجرة، كما توفر المستودعات لخزن البضائع وإيواء الدواب، فصحيح أيضا أنها كانت تحتضن سنويا ولمدة أربعين يوما نوعا من المعرض الفلاحي التجاري عُرِف بسُوق بوسديرة، أطنب الشيخ الصغير بن يوسف (ت 1772)، في وصفه في تاريخه “المَشرَع المٌلكي”، كان ذلك منذ عهد البايات في القرن الثامن عشر، وكان يلبّى حاجيات سكان إقليم مجردة بكامله.
ولأنّ باجة كما يقال “بلاد القِلّيل” فإنّ موسم الحصاد، كان بالنسبة إلى غير أهاليها من سكان البلاد وسطاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، موسم هجرة الفئات الإجتماعية المفقّرة من نساء ورجال القبائل البدوية أو المناطق المحرومة التي كانت تنتحل حياة الانتجاع معاشا، موسم هجرة إلى السّهول الكبرى حيث تتكثّف الحاجة إلى العمال الفلاحيين الموسميين الذين يقيمون في الأرياف في فترة الحصاد ليشتغلوا في جمع المحاصيل الزراعية مقابل عائد عيني من تلك المحاصيل إضافة إلى تكفل أصحاب المزارع بتأمين حاجياتهم الغذائية اليومية وترك أرض الحصاد للذين يلتقطون بقايا السنابل من “الغُمْرِ” إلى “الحِلَّةِ” لحسابهم الخاص، وتسمى هذه المجموعات بنسائها ورجالها “هَطَّاَية“ أو “طَيَّاشَة” أو “صَيَّافَة” أو “عَشَّارَة”.
هي عائلات تونسية كادحة، كانت تنتقل بتمامها وكمالها، صوب ضيعات السهول الكبرى، سهول ”فريقا” Friga بالخصوص، بحثا عن الشغل وتأمينا للقمة العيش “بالكيل الباجي”، وهو ضعف كيل الحاضرة، من “القمح الباجي”.
تلك هي باجة، منذ ملحمة حسونة الليلي، “شور الهَطَّايَة”: محط لآمال الكادحين ومركز جذب للمهاجرين في سبيل لقمة العيش ووجهة للباحثين عن مواطن الشغل من المفقّرين والمُعدمين وملاذ وملجأ للجائعين الآكلين لصبّار الهندي ومنطقة تعمير سكاني على أكبر قدر من الإغراء “تطعم من جوع وتؤمن من الخوف” وتلبي الحاجيات الاقتصادية لأوسع الفئات الاجتماعية. “فريقا، لا فرق الله شملها، تجزي أهلها والجايين”.
يهتف الهَطَّاي:
ناري نا ع القمح الباجي في مخازنكم يا رومان؟
فيرد عليه القوال على لسان الخماس:
على ذيبنا القرناص، حرقوه صقع “الليالي”،
يحرث ويقسم للناس، وسهمو ديما من تالي.
يسكت الجميع فجأة ليتعالى من جديد صوت كالنشيد:
“يا مدعي الصدق بين العرب والعجم
لقد تحولت من صدق إلى كذب
ماذا تقول وقد شوهدت في ملأ
كأن نشأته من طينة الغضب
بعت الورى للعدى بتا بلا ثمن
تبت يدا البائع الملعون في الكتب
لهفي على باجة الغراء باكية،
يهيم أبطالها في الأب والحطب”
وفي رواية أخرى:
لهفي على تونس الغراء باكية
يهيم أبطالها في الأب والحطب”
“بره يا بن صندل، وين حصدت، تندر”.
د.زهير بن يوسف