نحن الموجة الثانية!
توفيق قريرة
القدس العربي
من أجمل الشعارات التي قرأتها في سنة الكوفيد التاسع عشر لافتة كتبها متظاهرون ألمانيون في برلين يرفضون البروتوكول الصحي الذي تطبقه بلدهم في هذه الجائحة. وصفت بعض الصحف المظاهرة بالأكثر جنونا في تاريخ ألمانيا.
ما شدني في هذا الشعار أنه من الاستعارات الأسرع ظهورا والأعمق توظيفا. فبمجرد ظهور لفظة الموجة الثانية التي تعني أن فتك الوباء بالناس سيعود إلى شدته من جديد، التقط المتظاهرون العبارة ونسبوها إلى أنفسهم الغاضبة وجعلوا الموجة الثانية غضبهم من إجراءات الحجر والتغليق وغيرها من السياسيات العالمية المتبعة من أجل الحد من انتشار الفيروس وفتكه بالناس.
ينبغي أن نشير إلى أن هذه الاستعارة في استعمال المتظاهرين لها، هي استعارة على استعارة أو قل هي «موجة» استعارية ثانية غير الموجة الاستعارية الأولى التي استخدمت في شكلها النظامي.
الموجة في أشهر معانيها وربّما أقدمها تطلق على حركة ظاهرة لمياه البحر تتمثل في ارتفاع كتلة من الماء بفعل الرياح أو التيارات؛ وهذه الحركة لها طابع التكرر والتعاود في فترات زمانية متقاربة. والموجة هي أوج الحركة، قبل أن تهمد وتعود للتشكل من جديد. تتكسر الأمواج وهذا فعل استعاري لحركة حقيقية ، بمعنى أنها تصطدم بشيء ينهي حركتها الامتدادية. وفي كل بحر يكون الشاطئ عادة كاسر أمواج البحر الخفيفة، لكن توجد صخور توضع لهذا الغرض فتكسر الأمواج الأعتى. يترك الناس أحيانا لفظة موج ويستعيرون اسم تسونامي في التغيرات السياسية الكبرى، التي تهز كيانا سياسيا أو دولة، ولذلك يمكن أن نتساءل ههنا لمَ لمْ يستعمل لفظ تسونامي بدلا من موجة في توصيف الكوفيد؟ هل هو تلطيف للأثر؟ أم أن ذلك من لطائف العلم: أنه يهذب استعارته ولا يجعلها متطرفة؟
المهم أن الموجة استعيرت من البحر لانتشار الوباء، وهذه الاستعارة ليست بكل تأكيد بريئة، لأن من شرط الأمواج التكرر، فالوعي بأن المرض وبائي، درجة من التشخيص لكن أن يكون الوباء مَوْجِيا متعاودا فهذا ضرب من الاستشراف المطلوب حِمائيا، غير أن القول إن ما يتعاود ليس الوباء، بل غضب الجماهير فهذا شيء مفارق صنعته الاستعارة.
في العربية لنا وعي خاص بالموجة، لا نراها ارتدادية، بل نراها تراكمية، ويبدو أن العلم وتعاملنا مع اللغات الأخرى هو الذي أضفى على الموجة في فهمنا، ذلك البعد التكراري التعاودي. ليس أفضل من بيت امرئ القيس مثالا نفهم به كيف كنا نفهم الموجة فهما تراكميا، على أنها حركة واضطراب يقع فجأة حتى يفني صاحبه، الموجة عنده وقعة واحدة واضطراب ليست قيمته في تعاوده، بل في هجومه دفعة واحدة. كان امرئ القيس قد شبّه الليل الثقيل الكثيف بالموج حين قال: (وليل كموج البحر أرخى سدوله // عليّ بأمواج الهموم ليجتلي) كأن الليل شيء كثيف وثقيل ينزل بكل ثقله على المتحدث حتى يهده، وليس الليل الموج ههنا حركة متعاودة، تحتد وطأتها لتخف لتحتد من جديد. الحقيقة أن بعض الشراح جربوا فهم الموج بالطريقة نفسها التي فهم الشاعر بها الموج. فقال الأنباري ناقلا عن بعض الشراح: «معناه كموج البحر في كثافته». واضح أن الموج يدرك بما هو حركة في كثافته لا في تكرره. الحق أن هذا المعنى هو الذي نفهمه اليوم من الموجة الثانية من الوباء: أن الوباء سيشتد والإصابات تتكثف، فالرؤية للموج ما تزال كمية لا تكرارية. الموج ليس له سدول سوداء يرخيها على بياض مثلما يفعل الليل، الموج حركة متكررة بين سكونين قصيرين هذا هو معناه اليوم، لكنه في التصور القديم هو شيء فيه من الكثافة والهجوم ما يجعله يشبه الليل. يدرك معنى الموج في العربية القديمة في معنى الاضطراب، والاضطراب هو الحركة غير المنتظمة في عنفوانها، لكن الموج كان له في العربية علاقة قرابة بالندب والبكاء، وليس أدل على ذلك من الفعل المنسوب إليه (هاج وماج ) فيصف راكبو البحر الخائفين من هياجه، بأنه ذو هياج متلاطم الأمواج. يرى الراكب الخائف من اليم وحين تتعالى الأمواج أنها تتلاطم، فالموجة تلطم الموجة، وربما كان اللطم بابا من أبواب الندب والبكاء، على من سيغرق في اليم.
استعمالنا الاستعاري اليوم للموجة في الكوفيد في قولنا (جاءت الموجة الثانية) هو استعمال فيه المعنيان متلابسان: معنى التعاود والتكرر من ناحية، ومعنى الكثافة والكثرة. ما يقال عن استعارة الموجة لعدوى الكوفيد، إننا نفهمها اليوم فهما تلتبس فيه الكثرة والكثافة (وهذا معناها القديم) بالتعاود والتكرر (وهذا معناها العلمي الجديد).
أمر آخر في استعارة الموج للوباء يثير إشكالا هو مرجعية الموج الطبيعية الأصلية نعني البحر، في عصر تعددت فيها استعمالات الموج وإحالاتها (كهربائي، مغناطيسي، مناخي) مازلنا نتقبل الموج على أنه موج البحر. في الثقافات التي لا تعرف جيدا هذا المرجع الإحالي (الشعوب غير البحرية) يكون إدراك الدلالة ضبابيا أو هلاميا. الموجة في أقرب استعمالاتها إلى الكوفيد يمكن أن تحيل على موجة البرد أو الحرارة، وهي تعني الاستمرار على الوضعية مدة فالموج ههنا زماني يشبه موج امرئ القيس، حين استخدمه في وصف الليل. أما إذا أحلناه على مرجعه البحري، فإن العادة عند الناس مع الموجة لا تبرز التكرر بقدر ما تبرز الاضطراب، غير أنه ليس اضطرابا قاتلا. إن تقبل الموجة في الثقافة العربية يقترن بمدلولاتها القديمة غير المتطورة ضرورة، ولذلك فإن موجة ثانية للكوفيد هي بصفة عامة أقل وطأة على الناس هنا من وطأتها على الناس في أماكن أخرى.
لكن ومن ناحية أخرى، اشتغلت استعارة الموج للداء اشتغالا عالما، أو قل شبه عالم لأنها هيأت الأذهان، بدون أن تشرح لكي تعلم أن الداء لم يزل وأنه تكرري وأن الخوف لا بد أن يكون قائما طالما أن أسبابه قائمة، ومثلما قال ابن عبد ربه قديما إذا كان الموت راصدا فالطمأنينة حمق.
واشتغلت استعارة (الوباء ـ موجة) اشتغال من لا منافس له، حتى جاء هؤلاء المتظاهرون لينقلوا الاستعارة إلى طبقة أعلى: حين بنوا على الاستعارة القديمة بنايتهم الجديدة، وعلى أنقاض القديمة. ولئن كان الهدف من الاستعارة الأولى الحذر حد الخوف، والخوف حد المرض، فإن هذه الاستعارة جاءت لنقض كل ذلك ولقلب الخوف إلى تخويف.
نحن الموجة الثانية هو المعنى الأعلى الذي تتخفى تحته معاني استعارة الوباء موجة. نحن الموجة الثانية تعني إننا قادمون لا محالة ولن نبقي ولن نذر وهذا تهديد سياسي وليس صحيا، هو تهديد برد الفعل الجماهيري المباشر على من تخفى خلف الفيروس ليصنع الخوف في الأذهان.
هذه الاستعارة لا تتخفى خلف الاستعارة الأولى، بل تعريها وتكشفها وتقاتلها بآلياتها الفنية نفسها. يقول رافعو الشعار إن كنتم تخيفوننا بأن الكوفيد راجع لا محالة، كحركة موجة طبيعية راجعة إلى ذروتها، وقوتها الأولى أو أشد، فإننا لا نخاف من كوفيدكم، ولا نصدق فعله الذي تخيفوننا به من أجل سياساتكم. إن كنتم تبشرون بالموجة الثانية، فنحن الموجة الثانية لا الكوفيد؛ وإن كنتم أنتم الموجة الأولى التي ربحت جولة، فلن يكون التعاود بيدكم بل بيدنا.. دالت دولتكم في الموجة الأولى وهذه دولتنا في الثانية.
أعادتنا الاستعارة إلى الصراع القديم بين حاكم ومحكوم، خاضه الطرفان بوسائط استعارية كثيرة أهم ما فيها هو سرقة أدوات الاستعارة التي يستعملها الفريق المنافس. ربما من قوة هذه الاستعارة أنها تقول: ليس من القوة في شيء استعمالك الاستعارة وهي بِكْر؛ بل القوة الأكبر هي قوة من يسرق لك استعارتك ويحاربك بها، ويقول لك أنا الموجة العاتية المقبلة.. عُتُوي ليس من ضعفك بل من ضعف سبقك إلى استعارة كنت تعتقد أنك مالكها الأوحد.
٭ توفيق قريرة أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية