الزيتونة واحدة ومتعددة -2-

زهير بن يوسف

نماذج إصلاحية

يلاحظ أرنولد قرين في كتابه “العلماء التونسيون” أن موقف العلماء من التحديث السياسي والمؤسساتي كان في عمومه سلبيا إلا أننا نلاحظ أن هذا الرأي لا يخلو من تعميم ذلك أن عملية التحديث في تونس لم تكن محل توتر كبير بين العلماء ورواد الإصلاح بل إن العلماء كانوا مساندين لها، مواكبين لتطوراتها، واعين بأهميتها، متبنين لكل ما أتت به من إصلاحات.

1. الشيخ إبراهيم الرياحي داعية للتقدم

اشتهر الشيخ إبراهيم الرياحي (ت 1850)، فضلا عن صلاته الحميمة بشيخ الإسلام عارف بك أبرز أنصار التنظيمات في إسطنبول بتأييده للإصلاحات بشكل كامل ومساندته لمشروع أحمد باي التحديثي، بل ومطالبته بالتنظيمات لكونها على حد تعبيره “قوام الاستقامة والوسيلة التي يستعاد بها ما للدولة من العز والفخامة”، علاوة على دعوته إلى “إقامة الأمور على مستقيم ميزانها”، ومن هنا كانت إشادته بالإصلاحات الإدارية والجبائية (ترتيب لزمة الدخان والجلد) التي سنها أحمد باي “رفعا لمظالم أحرقت قلوب العباد وأخلت البلاد ونشرت أنواع الشرور والفساد” وإلحاحه على تطبيقها، وقد خلد ذكره كداعية للتقدم من خلال حضوره المرجعي في ذاكرة الأجيال المتلاحقة من رجالات الإصلاح (ابن أبي الضياف وخير الدين مثلا).

2. بيرم الرابع داعما للتجديد

عبر محمد بيرم الرابع (ت 1861)، عن تأييده لإصلاحات أحمد باي ينطق بذلك مثلا تقريضه لها وإشادته بها نثرا وشعرا كما في قوله:

نظامك أيها الملك الهمام به * للدين قد ظهر ابتسام

نظام يكتسي الإسلام منه * سرورا ليس يحصيه النظام

كما عبر بمعية الشيخ إبراهيم الرياحي على لسان المجلس الشرعي عن تأييده لقانون تحرير العبيد بكل ما يعنيه ذلك من اقتناع بقيمة الحرية ودعوة لها.

ويذكر للشيخ بيرم أنه الشخصية الدينية الأساسية التي عبرت عن تأييدها لمجموعة الآراء والمواقف التي طرحها سليمان الحرايري (ت 1873) في مقدمته “الإرشاد” منذ عام 1853 مما له مدلوله الفكري والحضاري العميق خاصة متى علمنا ما تميزت به مقاربات الشيخ سليمان الحرايري لمسألة التحديث من جرأة وانفتاح على الآخر واتساع في الآفاق الذهنية وتفجير للتناقض مع حملة الوعي المفوت ممن يسميه بـ “علمائنا الغافلين”.

3. محمود قبادو رائدا للمثاقفة

أما محمود قبادو (ت 1871) فكان أشهر التونسيين وأقواهم تأثيرا في سير المدرسة البوليتكنيكية بباردو وفي أذهان طلبتها، وتجلى إسهامه فكريا في الدعوة إلى ما أسماه العلوم الكونية أو أيضا العلوم الرياضية والطبيعية والعلوم الحكمية، وهي العلوم التي ارتأى أنه لا سبيل إلى نهضة العالم الإسلامي “إلا باقتباسها عن الأوروبيين بالنقل والتعلم”، وفي هذا الإطار يتنزل دعمه لحركة الترجمة وتفطنه المبكر لدورها في مد جسور التواصل مع الآخر مما سيكون له دور ثقافي وفكري متقدم، وهو الدور الذي تقاسمه بمعية الشاذلي بن صالح ومحمد التطاوني وبشير التواتي وحسونة بن مصطفى، وجميعهم من شيوخ الزيتونة.

 4. دور رديف لكنه إيجابي

لئن بدأ دور العلماء في تجربة التحديث الأولى، وهي تجربة وإن غلب عليها الطابع الإداري والعسكري لم تخل من بعد اجتماعي، دورا رديفا لدور السياسي، فللطبيعة النخبوية لهذه العملية وصبغتها الفوقية التي لم تكن ملبية لحاجيات قاعدة الهرم الاجتماعي بقدر ما كانت ملبية لحاجيات قمته وبالأساس لطموح المشير الأول أحمد باشا باي الشخصي إلا أن هذا الدور يظل في عمومه إيجابيا ليس فقط لعدم معارضته للإصلاحات وإنما لتأييده لها وانخراطه في إنفاذها.

السؤال: إلى أي حد يمكن أن ينسحب موقف هذه النماذج الإصلاحية على كل النخب العالمة؟ وبالتالي إلى أي مدى اعتبار العلماء كتلة واحدة متجانسة ذات مواقع ومواقف موحدة ومن ثمة يمكن نمذجتها؟

د. زهير بن يوسف

Comments (0)
Add Comment