باجــــــة: مدينة عثمانيّة

بقلم: د. زهير بن يوسف
تتفق المصادر التاريخية التونسية الحديثة على نجاح الدايات والبايات الأتراك منذ العقود الأولى من القرن XI/XVII – ولا سيما بعد أن انتهت السلطة إلى الأسرة المرادية- في بناء مراكز إشعاع ثقافي حقيقية بمختلف مقاطعات البلاد، ويعود الفضل في ذلك إلى ما ابتنوه بها من مؤسسات علمية ودينية وما اختصوها ورجالاتها به من حظوة وعناية ورعاية وامتيازات الأمر الذي مكن من توطيد أركان المذهب الحنفي، مذهب الدولة الرسمي وكرّس أهميته الروحية والاجتماعية من ناحية وتوصّل إلى تلبية احتياجات الإيالة من النخب في مختلف الاختصاصات العلمية والقانونية والشرعية من ناحية أخرى.مع الانتشار العثماني تكرّست مكانة مدينة باجـة الاستراتيجية مركزا إداريا وعسكريا واقتصاديا لكامل منطقة التلال، إذ كانت سوقا كُبرى للحبوب وهي الوظيفة التي ما انفكت تستأثر بها منذ العصور القديمة ومنها دورها كعاصمة اقتصادية إقليمية على الصعيدين الفلاحي والتجاري، كما كانت قاعدة حصينة و مفترق طرق استراتيجيا لوقوعها على طريق الغزوات القادمة من الغرب وحاجة بايات المحالّ(ج.محلّة) إلى الإقامة بها كلّما خرجوا لاستخلاص الضرائب صيفا، ولذلك فإنّ أهمّيتها هذه ستجعلها مركز استقطاب لجالية تركية وفيرة العدد لفتت انتباه الرحالة الإيطالي روبرتو إلياطا منذ مطلع القرن XVII/XI[1]. وسيشير المؤرخ محمد الصغير بن يوسف (ت1185/1772) إلى وجود طائفة كبيرة من الكوارغلية مستقرين بها منذ أواسط القرن XVII/XI، كان هو واحدا منهم2. وإذا كان حمّودة باشا (1631 ـ 1665) قد رتّب بها وجقا من الصبايحية، فالثابت أنّ قصبتها قد كانت منذ بداية العهدالعثماني مقرّا لحامية تركية من الجيش الإنكشاري، وقد كاد آغة هذا الوجق/ الحامية وهو عجم داي سنة 1019/1610 أن يكون ثاني الدايات الذين حكموا البلاد3.وتبرز أهمية هذا الحضور من خلال حجم الملكية العقارية التي كان يحظى بها أفراد هذه الشريحة من السكان[2]4 فضلا عن طبيعة الدور الذي سوف تضطلع به أعيان الأُسر المنحدرة من أصول تركية وتحديدا الأرستقراطية الكوروغلية في حياة المدينة الاقتصادية والاجتماعية[3]5 بالتزامن مع دورها في حياتها الروحية ولاسيما ما شهدته من صراع مذهبي، في واجهته على الأقل، سيتواصل إلى أواسط القرنXX/XIV[4]. علما أنّ أثر هذا الحضور الإثني، وهو يعكس بالضرورة موقع الأحناف الاجتماعي ومن ثمة حجم الأهمية التي يتسم بها مذهبهم في حياة المدينة، مازال ماثلا من خلال ألقاب بعض الأسر سواء منها ما انقرض أو تحوّل بالتقادم[5]أو ما يزال موجودا إلى اليوم[6] وهو ماثل كذلك من خلال المنشآت الروحية والعلمية التي ابتنوها، وهي منشآت موازية للمنشآت الموجودة التي تخص غيرهم من الأهالي، وقد كانت مُعدّة لتعظيم المذهب المالكي قواعدَ وشعائرَ، وتتمثل أساسا في المباني الجنائزية التي أقيمت على أضرحة صُلحائهم مثل مقام سيدي بقطاش الزلاوي[7] و مقام كريمته للاّ زينب، أو الزوايا التي تفرد بتأسيسها من جمع بين “الشريعة والحقيقة” من فقهائهم كما هو شأن زاوية سيدي عبد الله نوال[8]، أو تلك التي رعَوها وتقدموا على أوقافها حينما بلغ التصوف أقصى مدّه الطرُقي وصار الانتماء المذهبي يترافق بالضرورة مع الولاء للطريقة، وهذا شأن الزاوية الرّحمانية[9] وزاوية القسطلّي الزاوية الثانية للطريقة الرحمانية بالبلد[10].ولعلّ ذروة هذه المنشآت تتمثل في الجامع الحنفي والمدرسة المتصلة به وهي حنفية أيضا، وهما المعلمان المُراديّان اللذان عمدنا إلى دراستهما تاريخا وأدوارا لما يتميّزان به من خصائص ولما نهضا به من وظائف كان لها أثرها الإيجابي في إنعاش الحركة العلمية المحلية، وهو ما سيتجلى بشكل بارز خلال العهد الحسيني الأول في تغطية حاجيات الدولة من الإطارات الشرعية والعلمية فضلا عن تعزيز النفوذ الاجتماعي للأرستقراطية التركية الحاكمة محليا ومركزيا.

  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش:
  1. 1 –Roberto Elliatta Gentilhuomo Inglese, Brève description du royaume de Tunis in Pignon (J),. pp 19-20.
  2. [2] – تراجع في ذلك رسوم الأحباس الخاصة الراجعة بالنظر إلى الأسر المنحدرة من أصل تركي، رسم حُبس الميلادي بن الحاج سليمان التركي – مخطوط خاص – ورسم حُبس صغير بن يوسف بن علي التركي- مخطوط خاص، و رسم حبُس حمزة بن حسين بن عباس مبزعية الحنفي مثلا.
  3. [3] – وهذا ما أشار إليه بيليسييه سنة 1847 منبّها إلى مستوى المعيشة المرموق الذي كانت تتمتع به بعض هذه الأسر وقد نصّ مثلا على أنّ بعضها أثرى المزارعين وتجار الحبوب بالإيالة كلها:
  4. Pellissier (E), Description de la régence de Tunis ,imp. Impériale, Paris, 1853, T1, p 248. تثبت ذلك أيضا دفاتر الجباية، راجع:
  5. Kassab (A), L’évolution de la vie rurale, Tunis, Publications de l’Université de Tunis, 1979, pp 75-76.
  6. [4] – انظر صدى هذا الصراع حول منصبي الخطابة والإمامة بالجامع الحنفي بباجة بين الأحناف والمالكية إلى حدود الأربعينات من القرنXX في مراسلات الأحناف المكثفة للجهات الرسمية المعنية واعتراضهم على “تغيير المذهب الحنفي”: الأرشيف الوطني التونسي: السلسلة D،الصندوق 4، الملف 17، أيمة الجامع الحنفي.
  7. [5]– على غرارعائلات ابن بليطة وابن مامي وابن للونة وعبدي الحنفي ووالي وقايجي وعجم و بن قروية و قرط و بن خليل و جعفر …
  8. [6] – مثل عائلات بُرناز وبولكباشي والميلادي ومبزعية وابن زلاوية و الزلاوي وآل ابن يوسف الأحناف وآل ابن يوسف الكوروغليين وشلبي والدرويش و تراكي و الكدردر و بن دبوزية و القُبجي.
  9. [7] – يعرف اليوم باسم سيدي بعداش أو بعداج ومقامه غربي مئذنة الجامع الكبير داخل باب المدينة وقد تحول إلى محل سكنى.
  10. [8] – توجد هذه الزاوية بنهج الحوكية جوار الجامع العتيق وبها ضريح شيخها المؤسس وضريحان لاثنتين من الصالحات تعرفان ببنات عجم، هما بنتان لعجم داي المذكور، و بها دُفن عجم داي نفسه، راجع: محمد الصغير بن يوسف، التكميل المشفي للغليل، خ، د.ك.وط.بتونس رقم 5264 و183ب.
  11. [9] – هي الزاوية التي تنتصب بساحة باب العين عند أعتاب السور جوار الجامع الحنفي أسسها قبل سنة 1269/1853 الشيخ محمد بن أحمد القسطلّي حامل لواء الطريقة الرحمانية في عصره برعاية كاملة من الفقيه محمد الجيلاني بن أحمد بن يوسف الحنفي، أحد أعيان الكوارغلية، (رواية حفيد الولي السيد عبد الستار القسطلّي)، انظر : زاوية الطريقة الرحمانية بباجة، أ.و.ت، السلسلة D، الصندوق 4، الملف 3.
  12. [10] – أسسها داخل باب السوق الشيخ محمد بن أحمد القسطلّي(ت1275/1857) برعاية من أبي الحسن علي بن الصغير بن يوسف الحنفي،كبير أعيان الكوارغلية، سنة 1274/1856 أو قريبا منها إذا كانت في التاريخ المذكور “جديدة البناء”، رسم حُبس زاوية القسطلّي، أمدّنا به مشكورا المرحوم عبد الستار القسطلي (ت2008) المشار إليه سالفا، راجع زاوية القسطلي، أ.و.ت، السلسلة D، الصندوق 75، الملف 19.
Comments (0)
Add Comment