الموالد بين الفلكلور الشعبي والصوفية… شهادات للسينما المصرية
عن جريدة القدس العربي
بدأت السينما المصرية في رصد الاحتفالات السنوية وربطها بالحالة الدينية والصوفية منذ وقت مبكر، فقد عملت على تتبع الظاهرة لتصل إلى المعاني المتضمنة في هذه المسألة، كما أنها حاولت التفتيش عن الأسباب المؤدية إلى الاحتماء في مقامات الأولياء، للتعرف على جُل الأزمة الحقيقية التي تختبئ دائماً وراء الحالة الاحتفالية.
وقد وقفت بعض الأفلام موقف المحايد من الظاهرة ذاتها، من دون أن تُبدي رأياً صريحاً فيها، خوفاً من رد الفعل الشعبي أو الرقابي، أو أنها آثرت الابتعاد لتنأى بنفسها عن التفاصيل الجدلية بكل ملابساتها. وعلى عكس ذلك الطرح، كانت هناك تجارب سينمائية أكثر نضجاً اشتبكت مع الحالة والظاهرة، فكشفت عن مكنونها وأفصحت عن دوافعها بشكل حمل نبرة الرفض، وأعطى دلالات قوية لعلاقة الاحتفالات المعتادة بأصحاب المقامات والإحساس العام بالخوف وعدم الاطمئنان، ومن ثم كان اللجوء إلى الطقوس الدينية والصوفية نوعا من طلب العون والاستقواء بالأولياء والمريدين.
من بين الأفلام التي رفضت الدروشة والتواكل، فيلم «قنديل أم هاشم» للمخرج كمال عطية، المأخوذ عن قصة الكاتب يحيى حقي، الذي يناقش قضية اقتران الجهل بالخزعبلات الشعبية، ويطرح بجرأة مصير البطلة الضحية سميرة أحمد، التي فقدت بصرها نتيجة التبرك بزيت القنديل، الذي يضيء مقام أم هاشم، السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها، في غيبة العلم، ومن هنا جاء الصراع الحتمي بين الطبيب شكري سرحان والمعتقدين في التداوي بزيت القنديل، وقد انتصر الفيلم في النهاية للعلم والطب، ليقدم العظة من مغبة الانقياد وراء الخرافة، التي أودت بالبطلة إلى فقدان بصرها قبل إنقاذها على يد الطبيب العائد من بلاد الحضارات المتقدمة.
وفي سياق متشابه قدمت السينما المصرية ملمحاً من القضية في فيلم «بين القصرين» للمخرج حسن الإمام والمأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، حيث استلهام فكرة تقديس المقامات والأضرحة، من اعتقاد بطلة الرواية أمينة في أن زيارة مسجد الإمام الحسين ستُبارك لها في أبنائها وتُصلح من أحوالهم وتدعم وجودها في بيت زوجها السيد أحمد عبد الجواد، ونرى في هذه الجزئية كيف كان الصدام بينها وبين الزوج مقروناً بالحادث الذي وقع لها عند خروجها لزيارة مقام الحسين، وهو تضمين يعكس رأي الكاتب والمخرج، ويهدف إلى ضرورة الفصل بين كرامات الأولياء ومصائر البشر، وفي محاولة للتأكيد على الهاجس الذي يسيطر على بعض أفراد أسرة سي السيد، يذكر الروائي الكبير أن أصغر الأبناء كمال لجأ وهو في سن البراءة إلى مقام الحسين متضرعاً كي يرد له أمه التي تركت البيت جراء زيارته من غير علم أبيه. وفي السياقين المنفصلين، المتصلين كان الرصد الواقعي للارتباط المتوارث بالحالة الصوفية، المتمثلة في بعض الرموز الدالة على تغلغل المفهوم العام لدى السواد الأعظم من الناس، بتأثير أصحاب النفحات والكرامات من الأولياء على الحالة الاجتماعية بمختلف جوانبها.
يقدم فيلم «مولد يا دنيا» لعبد المنعم مدبولي وعفاف راضي ومحمود ياسين، صورة أخرى لاستثمار جو الموالد في الانتفاع المادي والفني والتنفيس عن المواهب الكامنة لدى أعضاء الفرق الجوالة
وفي فيلم «شباب امرأة» قدم المخرج صلاح أبو سيف أيضاً صورة بينية لهذه الحالة من خلال شخصية البطل الأزهري إمام، الذي جسد دورة شكري سرحان، وهو الذي كان حريصاً قبل الغواية على زيارة المقامات والتبرك بها، لقاء نجاحه وتفوقه، وعملاً بوصية الأم والخال، ليربط المخرج بين الخلفية الريفية للشاب المتدين بالفطرة، والثقافة التي تحكم سلوكه في علاقته بأولياء الله.
ويقدم فيلم «مولد يا دنيا» لعبد المنعم مدبولي وعفاف راضي ومحمود ياسين، صورة أخرى لاستثمار جو الموالد في الانتفاع المادي والفني والتنفيس عن المواهب الكامنة لدى أعضاء الفرق الجوالة، وهنا يخرج الفيلم من المنطقة الروحانية إلى مدارات أخرى، منبتة الصلة بالجوهر الصوفي للموالد، ولكنه في الوقت نفسه يقدم المولد باعتباره مناسبة نفعية وملاذاً للمحتاجين، كونه يسهل عمليات البيع والشراء وترويج الفنون الشعبية للبسطاء من الرواد والمريدين.
ويقترب فيلم «سعد اليتيم» لمحمود مرسي وأحمد زكي ونجلاء فتحي اقتراباً أكثر من الفكرة الرئيسية، إذ يصوغ السيناريست عبد الحي أديب التفاصيل الدرامية، لأهل التكية والدراويش مُعرباً عن رفضه للاستمرار في الانقياد والتواكل والعجز عن تحريك أي ساكن، بدعوى التماهي الكامل في الجو الصوفي والإعراض عن الدنيا وزينتها ومشاغلها، ويستنكر الكاتب على لسان البطل سعد اليتيم «أحمد زكي» أن تكون تلك الحالة السلبية صورة من صور الإيمان.
أما في فيلم «المولد» الذي قدمه عادل إمام ويسرا وأمينة رزق وعبد الله فرغلي قبل أكثر من عشرين عاماً، فكانت المعالجة مختلفة تماماً، حيث تمت الإشارة إلى حوادث اختفاء الأطفال في غمرة الزحام والفوضى وما يترتب عليها من مآس اجتماعية، كما في حالة البطل الذي أصبح رهينة لدى من عثر عليه، ولم يُحسن تربيته فنشأ في أحضان الجريمة، وصار واحداً من زعماء العصابات، بينما بقيت الأم المكلومة أمينة رزق طوال الأحداث تترجى آل البيت وتدعوهم ليردوا إليها ابنها الغائب، وهي معالجة وإن كانت سطحية، لكنها عكست المفهوم نفسه الدال على الحالة السلبية في العلاقة بين عوام الناس والأضرحة والمقامات، ولمست مواطن الجهل المؤدية إلى تفشي الظاهرة وترسيخها.
وبخلاف النماذج التي ذكرناها وردت إشكالية الموالد في العديد من الأفلام القديمة والحديثة، ربما يأتي في مقدمتها بحسب الترتيب الزمني لإنتاجها، فيلم «تمر حنة» لنعيمة عاكف وأحمد رمزي و«صراع في النيل» الذي قام ببطولته شكري سرحان ورشدي أباظة وهند رستم، وكذلك الفيلم الأحدث نسبياً، «الحدق يفهم» للمخرج أحمد فؤاد والأبطال محمود عبد العزيز وهالة فؤاد، وقد ناقش الأخير القضية في سياق مختلف بُنيت فكرته على الوهم، بوصفة علاجاً افتراضياً يذهب بعقل الشخصيات المأزومة بعيداً ليتم تغييبها فلا ترى المشكلة ولا تشعر بها، طالما أنها تمسكت بأفكار غيبية وارتضت أن تعيش برغبتها في فلك الخرافة، حيث الرجل المطارد الهارب من العدالة يصبح هو نفسه في نظر الناس صاحب المقام والمعجزات، يلجأون إليه ليفك عقدهم ويحل مشاكلهم!
٭ كاتب من مصر