في سوق الملابس المستعملة

عن القدس العربي
الأستاذ توفيق قريرة.
قال له: لا تأكل خبزا إلا خبز الشّعير وقلّل من اللّحم وكل سمكا أو دجاجا ولا تكثر من الغلال وأكثر من الخضار، وتجنّب النبيذ ولا تدخّن البتّة.. فإنْ طمعت نفسك فليكن طمعك في سيجارة وحيدة يتيمة، إنسَ بعدها أن تدخّن.. قال له ذلك وهو يكتب في صحيفته الصغيرة التي لن يستطيع أن يقرأها غير الصيدلانيّ، وأن يعيد عليه وهو يكتب على علبة الدواء: هذا ثلاث مرات قبل الأكل، وهذا مرة بعد الأكل بنصف ساعة وهذا.. انتظر قليلا.. آه نعم.. هذا مرة واحدة في اليوم.. سيسمع ولن يدخر شيئا في ذهنه، لا لأنّه مكتوب على العلبة بخط عربي غير مبين، بل لأنّ زوجته هي التي ستتكفل بكل هذه الإرشادات.. مازال يشعر بأنّه وهو بين يديها آمن مطمئنّ.. يقول لها أنت دوائي.. هو الذي كان يقول لها من أوّل ما عرفها.. قتلتني عيناك بلا سلاح.. فتضحك.. يتطوّر القاتل في حياتك ليصبح هو الدّواء..

تساءل: أنا من أين لي بخبز الشّعير؟ صحيح أن الشّعير يؤكل ويذمّ كما يقال.. لكن من أين لي بمن يخبزه خبزا متماسكا كما كانت جدّتي البربرية تفعل؟ هل عليّ أن أكون نباتيّا أنا الذي خلقني الله لاحما عاشبا؟ قد تكون لاحما فيحول الزمن وشدّته بينك وبين اللحم فتقول للناس: أنا عاشب فيظنّ النّاس أنّه موقف، والحقّ أنّه قضاء مسلّط.. لم نكن في صبانا نأكل اللحم إلاّ نادرا، كنا نأكل خبز الشعير، ونكتفي بمرق كذاب أي بلا لحم.. هل كان الفقر دواء؟ ليته سأل الطبيب هذا السؤال.

لأوّل مرّة منذ سنين شعر بأنّه غادر الطبقة الوسطى صار أقرب إلى الفقر.. لم يغادر الفقر كثيرا كان يسكن وهو في الطبقة الوسطى بيتا يفصله جدار واحد عن الفقر القديم.

من الغد وبعد أن غادر الطبقة الوسطى نهائيا وبلا رجعة، قصد هو وزوجـــــته باكرا ســوق الملابس المستعملة. من يعرف أنّ للملابس المستعملة سوقا عليه أنْ يستيقظ من سباته الطبقي باكرا، ويرافق زوجته ويقصد سوقا تكدّس فيها الملابس المستوردة وتجمّع في شكل حزم مضغوطة تسمّى كل واحدة منها «بالة» ويسمى اللباس هناك جميعا «فريب « من الفرنسية Fripe التي تعود في أصولها إلى اللاتينية، وتعني فيها الشيء الصغير الذي لا معنى له..

كان عليه أن يستيقظ باكرا لأنّ تلك البالات تفتح باكرا بين يدي الزبائن ويكون أغلبهم من النساء، فيجتمع العطاشى إلى لباس أوروبي على الموضة، ويتخاطفون القطع كما يختطف منكود الحظ لحظة حظّ عابرة. طبعا ليست الأكياس العريضة المضغوطة تفتح جميعها أمام الزبائن، فمنها ما يفتح في الدكاكين أمام جماعة قليلة من الزبائن الأوفياء وتحمل البقية إلى السوق لتكدّس حسب نوع اللباس.

الطبقة الوسطى التي أزري بها في بلاده من سنين، صارت تجد في سوق الملابس القديمة ما يعيد إليها شيئا من ماء وجهها القديم. الطبقة الوسطى المؤلفة في أغلبها من آلاف الموظفين تحتاج في عملها الإداريّ اليومي لباسا محترما تقابل به المقبلين على الإدارة يوميا. بعضهم يحتاج أن يغير ملبسه مرتين أو ثلاثا في الأسبوع. تذكر صديقه السيميائي الفرنسي رولان بارت إذ يقول: للباس حضور يومي ويمكن أن يمثّل وسيلة لمعرفة نفسي.. إذ للباس وجود ذهني.. لم يكن قبل الوعي بالتزحزح الطبقي يشعر بأنّ للباس قيمة.. قال لزوجته كأنّه يهمس: اللباس كريش الطائر، إن كان الريش رفيعا صنّف الطائر لذلك الريش في فصيلة الطيور النادرة، وإلاّ كان طيرا هجينا أو عاديّا لا يلفت الانتباه. قالت زوجته: هو ذاك يا حبيبي، ورنت إلى السماء تريد أن ترى هل من طائر يحميهما.. نظرت إليه نظرة حبّ كان منشغلا كعادته عنها بأفلامه التي تعرض في ذهنه ولا تنتهي.

وصلا إلى السوق.. كان يسترجع في نفسه كلمات ممثل أمريكي اسمه غروشو ماركس إذ يقول: انطلقت من اللاشيء لأصل إلى اللامكان»، كان هو نفسه الذي يقول إن تشتري بدلة جديدة يعني أنك قد سافرت بعد إلى الخارج.. هذا هو الخارج يأتينا إلى سوق الملابس المستعملة.. قال في نفسه عليك أن تنسى في سوق الملابس أشياء أساسية أوّلها التفكير في أنّك ستلبس لباسا كان غيرك يلبسه.. هوية الجسد الغائب ذاك الذي لبس اللباس الذي ستقتنيه قبلك ألا تعنيك؟ ما يعنيك هو الثوب الملقى أو المخفي تحت الأثواب الأخرى هل يناسب موضعه على جسدك أم لا يناسبه؟ لم ينس وهو يبحث عن ثوب مناسب أن يتخيّل جسد من لبس وجسد من نزع، ولا كيف كانت القطعة عليه.. قطع اللباس الملقية في الأكداس هي ملابس نزعت عنها أجسادها.. نزعت عنها هويّاتها الأولى.. تساءل: كيف يمكن أن يعشق قطعة لباس مستعملة لا تعشقه.. كانت في ما قبل تعشق أوّل من لبسها.. هل هذه ملابس نزعت عذريّتها الأولى؟ هذا اللباس الذي سيختاره ويشتريه بعشر ثمن الثوب الجديد، لا شكّ في أنّ أحدهم كان يضعه ليعكس به فرحه الباطن أو حزنه الباطن.. هذه ثياب جاءتنا من عالم كان أهله يكشفون مشاعرهم إلى عالم يخفي ما لديه من مشاعر.. هاجس المرء الأوّلي أن يكسُو جسمه، هو ما حاول أن يشعر به وما أبعده الساعة عن أن يجعل لباسه رمزا لمشاعره.. قالت زوجته وهي تحمل بين يديها «تي شيرت» ما رأيك في هذا اللون؟ إنّه يناسب لون الفرح لديك.. أخذه من يدها وقلّبه وقاسه على صدره ووافق على أن تشتريه.. وضعته في يدها وراحت تبحث عن آخر وآخر.. تفكّر في فقر آخر هو الفقر اللغوي.. أشار إلى قطعة اللباس بين يدي زوجته وقال لها تصوّري أنّ اسْم هذا العربي قميص…

قطع عليه صوت بائع: آه.. ليتني كنت شاريا! أعجبه التمنّي.. فأن يكون شاريا يعني أن يكون نهما في اقتناء الملابس ولا يناقش الثمن.. هل سئم البائع من أن يلعب دوما في هذه السوق دور البائع ينتظر رحمة من يشتري ولا يشتري، إلا بعد أن يجفّ ريقه.. ربما اشترى البائع بالة اللباس كمن يشتري قطّا في كيس، كما يقول المثل الشعبي.. هو يكتشف مع الناس قيمة بضاعته أو قلة قيمتها.. هذا بائع لا يبيع لباسا، بل يريد أن يشتري أمنية.. الأمنية عنده لباس آخر غير الذي يبيعه. التمني بحلمك بأن تكون شيئا جميلا حتى إذا كنته تذكرت واشتقت.. تساءل: هل التمني – عملا لغويّا- ضدّ الشوقّ؟ ناوله البائع تُبّان سباحة وقال بصوت جهوري: خذه فإنّه يعلّمك السباحة… ضحكت له وضحك غيري.. عجب له كيف عرف أنّه يجهل سباحة البحار.. قالت له: أنت سبّاح أفكار يا حبيبي.. دعك من التبّان.. وأعجبه في سوق «الفريب» كيف تصبح الأثواب فواعل، هي تغير ثيابها الأولى وتلبس ثيابا جديدة بروح أهل البلد.

** الأستاذ توفيق قريرة.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

Comments (0)
Add Comment