وجه الشبه المفقود
وجه الشبه المفقود
كانوا شيوخا وكنّا صغارا، وكانوا يحدّقون كثيرا في وجوهنا الصغيرة علّهم يعرفون من سِحْنَتِنَا نِسْبَتَنَا وبعد تأمّل وتفحّص وحساب يسألوننا: ألست ابنَ فلان يا فتى؟ إن أجبنا بالإثبات فرح السائل وقال الشبه لا يخطئ المرمى والدماء لا ترسم في الوجه عبثا ولا تذهب هباء. الشبه المرسوم في الوجوه يكون مدخلا إلى نسبتك إلى والدك قبل كلّ شيء.. وجه الشبه الموجود يكون أداة للمعرفة، لكنّه قد يعدم أو تذهب ريحه مثلما سنحدّثك عنه في هذه الفسحة.
لقد تأسّس كثير من العلم القديم على مراعاة الشبه بين الأشياء والمواضيع، مثلما قرّر ذلك الفلاسفة في إطار ما يعرف بالمَقْوَلة وهي نشاط ذهني يقود إلى تبويب الأشياء والمواضيع المتشابهة في مقولة واحدة. ففي اللغة مثلا وهي المجال الذي يعنيني أكثر من غيره قامت المقولة والتصنيف. فعلى سبيل المثال يحمل نائب الفاعل على الفاعل في الحكم الإعرابي، لأنّ كليهما يسند إليه الفعل. وفي البلاغة تأسس كثير من البيان على وجه الشبه مثل، التشبيه والاستعارة. وظنّ كثيرون أن قولك في التشبيه (فلانة كالبدر في الجمال) أن وجه الشبه بين المرأة والبدر هو الجمال، هكذا حكموا على القمر بالجمال حكما ليس له بالضرورة، فليس القمر جميلا إلّا لمن رآه كذلك. لكنّ فيروز وهي من أكثر من غنى عن القمر تنصح في أغنية لها القمر بأن «يغيب سنة» ويذهب في عطلة سبتيّة حتى لا يفضح العشاق.. ليس جميلا أن تفضح عاشقا يحب الظلمة ويتخفّى عن العيون في عوالم لم تكن فيها الأقمار الصناعيّة مفيدة.
وجه شبه أمر مفترض وفي كثير من الأحيان يكون مفقودا في ذاته قبل أن تستخرجه بالربط بين أمرين، ثقافة تريد أن ترمز لشيء بآخر فتدّعي أن بينهما شبها متعقّلا أو رمزيّا أو خياليا. علّمنا الشعر أن نقول في (زيد بحر في الكرم)
و(عمرو أسد في الشجاعة) الجامع بين (زيد) و(البحر) هو الكرم، والجامع بين (عمرو) و(الأسد) هو الشجاعة؛ ونحن نعلم أن الشجاعة ليست معنى يستحقّه الأسد، وأنّ الكرم قيمة لا تنسجم مع البحار، إلا رمزا واعتباطا. فما سمّاه البلاغيون وجه شبه، هو في الحقيقة معنى منتزع من صفات المشبّه به، وقد عمّموه على القبيلين، بل جعلوه حكما عاما مشتركا وهو إسقاط مفتعل. الجمال ليس سمة من سمات القمر، لا العلميّة ولا الثقافيّة، إنّما الجمال هناك انطباع حادث يقترن في النفس باقتران النظر إلى البدر في حالة تكون فيها النفس في سمر وبلا كدر. والأسد في الثقافة التي أنتجته ليس شجاعا بالمعنى القيمي لهذه العبارة، لأنّ البطش والسيطرة فيه جبلّة وليست ثقافة، والكرم الذي في البحر بمعنى أنّه مصدر لخيرات البحر، ولاسيّما السمك والدرّ ليس شيئا ثابتا فيه، لكن أن يقصد الصياد البحر ويرمي شباكه ويغدق البحر عليه فذلك يترجم رمزيّا إلى كرم..
لكن للعجوز سانتياغو بطل همنغواي في قصة «العجوز والبحر» رأيا آخر في البحر فهو ظل فترة منكود الحظ، حتى حين جر الحوت إلى الشاطئ تركه سمك القرش هيكلا عظميّا. في التصوّر العرفاني للتشبيه والاستعارة يفقد وجه الشبه وظيفته ويستبدل بمفاهيم أخرى من نوع الإسقاط بين ميداني تصوّر يوجد بينهما تعامل في ثقافة معينة. فإذا استعرنا للمرأة صورة بدر، أو غيره من الكواكب الجميلة فذلك لأن ذهننا الاستعاري بطبعه عالج تجربة مجردة، أو معنوية بوسائل تجربة ملموسة: عالج الجمال وهو فكرة مجردة باستعارة تجربتنا مع القمر وهي، تجربة بصرية جمالية متاحة للجميع. غير أن إسقاطنا عناصر تجربة على أخرى لن يوقفنا على علاقة تشابه، بل يقودنا إلى علاقة تناظر رياضي بين عناصر كلّ ميدان تصوّري، فالمرأة تناظر القمر، ونوره يناظر شدة بياض وجهها وبريقه يناظر بريق الوجه واستدارته تناظر استدارة وجهها، لكنّ هذا التناظر يحدث بشكل غير تفصيلي لا يقود إلى وجه شبه متحد، بل إلى «مزيج» متعدد الوجوه.
كان الفيلسوف فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein قد استعمل فكرة التشابه الأسري لينقد بها الطريقة التقليدية في المقولة التي تُؤْثَر عن أرسطو وتقضي بأنّ العناصر التي تنتمي إلى مقولة، ينبغي لها أن تجمع شروطا ضرورية وكافية تتوفر جميعها في كل العناصر حتى تنتمي إلى مقولة ما. فعلى سبيل المثال لكي يكون كائن ما إنسانا، ينبغي أن تجتمع فيه الشروط التالية: أن يكون كائنا حيّا وبادي البشرة (لا يكون من ذوات الشعر والوبر) وضحّاكا (أي قابلا للضحك). يشير فيتغنشتاين إلى أن مقولة الأسرة لا تحقق هذا الشكل من التشابه، فكل فرد من الأسرة لا تتوفر فيه كل عناصر الشبه مع أمه وأبيه وعمه وغيرهم من أفراد العائلة الصغرى والكبرى، حتى ينتمي إلى الأسرة؛ ولا يعني هذا أن الشبه معدوم لكنه متفرّق وليس مجموعا وحاضرا بالكلية لدى جميع عناصر أسرة من الأسر.
وما يقال عن مقولة الأسرة يقال أيضا عن الألعاب، فمن الممكن في هذه المقولة أن نجد من الفروق الكثيرة بين الألعاب ما لا يمنعها من أن تكون ألعابا، فنحن نجد ألعابا ذهنية وأخرى جسدية وألعابا جماعية وأخرى فردية، ولن نجد قوانين تجمع بين الألعاب جميعها، فلكرة القدم قوانينها، وللشطرنج قوانينه المختلفة، كما هو معلوم. بناء على هذه العصف النقدي لفكرة الشروط الضرورية والكافية الأرسطية، برزت نظرية أخرى للمقولة تعرف بنظرية الطراز. نظرية الطراز العرفانية في المقولة استفادت من قتل وجه الشبه المشترك المتحكم في الانتماء إلى المقولة، لأنها أسّست مع أستاذة علم النفس العرفاني الأمريكية أليانور روش Eleanor Rosch تصوّرا إدراكيا تجريبيا للمقولة، يقوم على إدراك المرء أجود الأنواع تمثيلا لمقولته التي تكون في حيز إدراكه، ثم يصنف العناصر المدركة بالنسبة إلى ذلك الطراز بعدا أو قربا. فعلى سبيل المثال فإنّ من يعيش في الصحراء تكون النخلة لديه طرازا لمقولة الشجر، وبالنسبة إليها تكون الزيتونة شجرة هامشية لأنها لا تشبهها إلا قليلا، وعلى العكس من ذلك تعدّ الزيتونة في المناطق التي يكثر فيها هذا الشجر طرازية، وتعد شجرة النخيل هامشية، وقس على ذلك مقولة الغلال والثمار والطير واللباس وغيرها.
في دراساتنا اللغوية يمكن أن نجعل الطفل الذي يتعرف على الطيور، اعتمادا على أحسن أنواعها تمثيلا، وهو الطراز أن يكتشف اللغة بالطراز أيضا. فطراز الاسم عنده هو الأسماء التي يسمّي بها الأشياء، والتي يسميها النحاة اسم الجنس من نوع حاسوب وكرة وطاولة وكرسيّ. اسم الجنس طراز الأسماء لأنّه واقع في حيز استعماله ومن اسم الجنس يمكن أن تكون أسماء الأعلام، ولذلك تكون الأسماء الأعلام قريبة من الطراز وليس كذلك أسماء أخرى مثل الظروف (فوق وتحت وغيرها) فهي أسماء لا تمت بصلة إلى الاسم بالمعنى الطرازي له، ولذلك تسمّى هامشية. في الأفعال تبدو الأفعال الحسية (مثل ضرب وأكل ومشى) قريبة للمتعلم أكثر من غيرها فهو يعرفها أكثر من غيرها، ثم يعرف الأفعال العاطفية من نوع أحب وأكره، لكنّ الأفعال الفكرية من نوع فكّر واعتقد وظنّ، تبدو أبعد عن طفل المدرسة في سنواته الأولى.. مثلما يعرف الصغير أن طائرا ما هو طراز لبقية الطيور، وأنّ الديك قد يراه يوميا مقصّرا عن أن يطير مثل الدوريّ، أو الخطاف سيعرف أيضا شيئا فشيئا، أن للكلمات سلوكات منها ما يؤلف منه الكلام ومنها ما لا يؤلف كلاما، ليس كل ذوات الجناح طائرا، ولا كل اسم يكون في الجملة فاعلا. هذه صورة أخرى من تطور التفكير التعليمي اليوم، تطوّرا كان فيه الشبه المفقود موجدا لدوائر جديدة من التصنيف.