في ذكراها السبعين: مظاهرة 15 جانفي 1952 بباجة أو ذاكرة المشترك الوطني

0

في ذكراها السبعين: مظاهرة 15 جانفي 1952 بباجة أو ذاكرة المشترك الوطني

د. زهير بن يوسف جامعي

1 الحدث والسياق:

           يتنزل هذا الحدث في إطار المنعرج الذي شهده الصراع مع الحماية الفرنسية بتونس بعد تراجع فرنسا عن الوعود التي قطعتها على نفسها في جوان 1950 بخصوص الاستقلال الذاتي وتنكرها للمطالب الوطنية مما انتهى إلى الإعلان عن فشل المفاوضات التونسية الفرنسية واتخاذ الصراع أشكالا مغايرة: مقاومة وقمعا.

2 ” النساء في المقدّمة”:

         وسمت مظاهرة 15 جانفي 1952 بباجة بالمظاهرة النسائية ليس لكونها مظاهرة اقتصرت المشاركة فيها على العنصر النسائي وإنما لتميّزها بالحضور النسائي المكثف والمتقدّم فيها قيادات وقواعد، حضورا قدّره تقرير المراقب المدني فلوري Fleury  بما لا يقلّ عن 100 إمرأة، سواء في الاجتماعات التي سبقت المظاهرة وحركة الشارع التي تلتها وكذلك في الاعتقالات والمحاكمات التي عقبتها، زيادة على اقتران هذه المظاهرة بتأسيس الشعبة الدستورية النسائية بالمكان، وعلى رأسها زبيدة بِدّه، بحضور وفد من القيادات النسائية من الشعبة الدستورية بتونس العاصمة وإشرافه، على رأسه شاذلية بوزقرو ونايلة بن عمّار ووسيلة بن عمّار وجميلة المنكبي وشريفة فياش، وتضيف بعض الشهادات الأخرى ومنها شهادة جميلة سليم أنّها خرجت بمعية بشيرة بن مراد التي اقترن إسمها بتأسيس أول جمعية تونسية للدفاع عن حقوق المرأة في هذه المظاهرة. أضف إلى ذلك أنها أولى المظاهرات النسائية اندلاعا بالبلاد، والمظاهرة التي ستعطي إشارة الانطلاق لاندلاع مظاهرات أخرى مماثلة ببنزرت ونابل وسوسة والمنستير وصفاقس وتونس، بما يشي بالدور المتقدّم الذي قامت به المرأة التونسية في معركة التحرر الوطني ولاسيما خلال ” المعركة الحاسمة” ليس فقط بالدعاية والتعبئة والتحريض وإنما أيضا بالانخراط الميداني في المقاومة إقداما وتضحية وريادة.       

3 مظاهرة منظّمة أم عفويّة؟

           تمحورت هذه المحطة النضالية الهامة في تاريخ الحركة الوطنية حول اجتماعين عاميّن إثنين تلتهما مسيرة احتجاجية سلمية أسفر ما عقبها من إيقافات عن وقفة احتجاجية شعبية حاشدة بلغ عدد المواطنين الذين التحقوا بها، بحسب مصادر البوليس الفرنسي من4 إلى 5 أضعاف عدد المشاركين في المظاهرة.      

1.3  اجتماع الزاوية الصمادحية: نساء ضدّ الاستعمار:

            الاجتماع الأول انعقد بفناء زاوية بابا علي الصمادحي بالمدينة العتيقة ذات الرمزية التاريخية العالية في مجال التمرّد والرفض، وهو اجتماع تمّ الإعداد له في كنف السرّية التامة، وقد اقتصر الحضور في هذا الاجتماع على العنصر النسائي، حوالي مائة (100) إمرأة من أهالي باجة، خاصة أنّ السبب المعلن لانعقاده قد كان تركيز الشعبة الدستورية النسائية بالمكان، وهو نفس السبب المعلن أيضا لقدوم  نخبة من سمتّهن الصحافة الوطنية آنذاك “الدستوريات الوطنيات” من العاصمة، استقبلهنّ محمود الكافي رئيس الشعبة، بمقر سكناه الكائن بساباط السعيد داخل باب الجديد على بعد عشرات الأمتار من مكان انعقاد الاجتماع، وهو سبب كان موجودا بالفعل إلا أنّ السبب العميق والحقيقي، وهو ما تتقاطع عنده الشهادات ومنها شهادة محمود الكافي، كان متمثلا في الدفع في اتجاه التصعيد النضالي مع الحكومة الفرنسية وسلطات الإقامة العامة الممثلة لها، بتعليمات مباشرة من الزعيم الحبيب بورقيبة مفادها على حد تعبير المناضلة زبيدة بدّه: ” حرّكوا الناس، وشوّشوا على فرانسا، لمّدوا جماعة واعملوا مظاهرة”، ودعم تدويل القضية التونسية ولاسيما بعد الشكاية  التي رفعتها حكومة مَحمد شنيق إلى مجلس الأمن بتاريخ 14 جانفي 1952 في الغرض، وآية كل ذلك الاستقبال الاستعراضي الذي حظي به الوفد النسائي الوطني والموكب الاحتفالي الذي حفّ به، وقد تم التحشيد له برفع الرايات الوطنية وانطلاق الحناجر بالأناشيد التعبوية الحماسية، وبدليل  طبيعة الكلمة التي ألقتها رئيسة الاجتماع المذكور، وهي، فيما تقول بعض التقارير، وسيلة بن عمّار، وقد تمحورت بالأساس، إلى جانب استعراض الوضع السياسي العام بالبلاد، حول التشديد على خطورة ما يحدق بتونس ودقته وما يستدعيه بالضرورة من تكثيف للنشاط الوطني المناهض للاستعمار وتعزيز له نوعيا وبشريا بالعنصر النسائي. 

2.3 اجتماع نهج خير الدين:

          انعقد الاجتماع الثاني حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر مباشرة على إثر  انتهاء الاجتماع الأوّل، وذلك بتحوّل  المشاركات في اجتماع الزاوية الصمادحية إلى مقرّ الجامعة الدستورية بنهج خير الدين، حيث القلب التجاري النابض للمدينة العتيقة،  في موكب ضخم كان في مقدمته محمود الكافي، رئيس الشعبة، وعلي الزلاوي أمين سرّ الجامعة، وغيرهما من القادة الدستوريين المحليين، جاب نهج المكمدة فنهج ساباط مراد، وصولا إلى بطحاء البرادعية ( ساحة علي باش حامبة حاليا) فبطحاء سيدي عبد القادر( تحت التوتة)  قبل أن ينعطف إلى نهج خير الدين في قلب باب الجنائز لينتهي به المطاف في مقرّ الجامعة عند أعتاب الربط القبلي والأسواق.

          ومما يؤكد أنّ هذه التحركات قد كانت منظمة أنها لم تترك أي شيء للصدفة إذ كانت وراءها لجنة تنظيم أبلت فيها كل من زكية طبّال( ت2007) وشقيقتها خديجة طبّال( ت 1995) بلاء منقطع النظير، وقد تجلّى ذلك من خلال اختيار التاريخ والموعد وهو يوم السوق الأسبوعية والمحطات والمسلك والشعارات المرفوعة والأناشيد الحماسية التعبوية التي تمّ الترنّم بها علاوة على الرايات المكثفة التي وقع إعدادها والزيّ الأحمر الموحّد لحاملات الأعلام التونسية من الفتيات الباجيات اللائي تصدّرن الموكب.

        والملاحظ  أنّ حركة الشارع هذه التي أثثتها السيّدات  بما يناهز مائة ( 100) إمرأة عند انطلاقها لم تصل  إلى مقرّ الجامعة إلا وقد التحق به وانضمّ إليها حوالي  سبعمائة (700) شخص، ليصل العدد الجملي للمحتجين، في وقت وجيز، بحسب المصادر الرسمية، إلى حوالي ثمانمائة (800) من المتظاهرين والمتظاهرات، عدد، يقول محمود الكافي إنه كان ” في الواقع يفوق ذلك بكثير”، كانوا يرفعون شعارات منادية بحياة الزعماء وباستقلال البلاد.

         لم يدم هذا الاجتماع الذي يبدو أنه راهن على رمزية المكان وعلى موقعه، طويلا، على أن كلمة محمود الكافي الذي ترأّس هذا الاجتماع، وقد كانت وجيزة إلا أنها دالة، قد تمحورت حول نقد السياسة الفرنسية بتونس والمطالبة بإسقاط نظام الحماية  وإعلان استقلال البلاد، والظاهر أنها أعطت الضوء الأخضر لاستئناف حركة الشارع.

3.3 المسيرة الكبرى:

          انطلقت هذه المسيرة في حدود الساعة الرابعة والنصف (16.30) بعد الظهر،  وقد تميّزت علاوة على طابعها الحاشد بتعدد الفئات المشاركة فيها اجتماعيا وتنوعهم جندريا إلا أنّ انتماء المتظاهرين والمتظاهرات بالأساس إلى طبقة المجتمع المديني وفئاته، وهي الطبقة التي كوّنت القاعدة الاجتماعية الصلبة للحزب، لم يمنع طبقة المجتمع الريفي وفئاته ممّن وصفتهم محاضر الاستنطاق بـ”المتسوّقين” أو ” السوّاقة ” بالمصلح الدارج المتداول من الانضمام إليها ومن ثمة توسيع قاعدتها الأساسية التي كانت من الفئات الشعبية وإعطائها مزيدا من الفاعلية.

          انطلق المتظاهرون والمتظاهرات في موكب موحّد عبر بطحاء البرادعية وحاذوا دار القايد، وهو آنذاك حسونة الزواري، عبر نهج الحوكيّة وحومة ساباط السعيّد، وانعطفوا إلى “دار المراقب” عبر باب الجديد  وحومة سيدي منصور ونهج لوجيرو Logerot  ( نهج العربي زروق حاليا) لينعطفوا مع نهج أرمان فاليار          ( Armand Fallières) (النهج الذي كان موازيا لشارع الحبيب بورقيبة حاليا وتحوّل إلى طريق خاصة بالمترجلين) ليتوقفوا بعض الوقت هناك اضطراريا تبعا للمضايقات التي سعى البوليس الفرنسي إلى تسليطها عليهم  قبل أن يقع السماح لهم باستئناف مسيرهم ومسارهم عبر نهج الكاردينال لافيجري (Cardinal Lavigerie) ( وهو نهج 15 جانفي 1952 حاليا) ليعودوا أدراجهم، على إثرها، إلى المدينة العتيقة حيث تفرّقوا في كنف الهدوء عبر حومة الربط وأسواق باب الجنائز.

4.3  المصادمات:

          ما إن هدأت حركة الشارع حتى كان الوفد النسائي الوطني قد غادر إلى العاصمة لمّا قام حاجز أمني بقطع طريق العودة على سيارتي الأجرة اللتين كانتا تقلانه على مستوى قنطرة وادي باجة وإيقاف جميع أفراد الوفد واقتيادهن في سيارات جيب عسكرية إلى دار الكوميسار حيث أخضعن للاستنطاق،  ويشير تقرير المراقب المدني إلى أنّ هذا الاستنطاق لم يكن سهلا حيث لم تنقطع الموقوفات عن رفع الشعارات و ترديد  الأناشيد الوطنية،،، وما إن طار خبر الإيقافات إلى مسامع  الأهالي حتى تجمهر أمام المخفر ما ينيف عن ثلاثة آلاف(3000) من المتظاهرين والمتظاهرات رافعين شعارات منادية بالاستقلال وسقوط الاستعمار وبحياة الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وحياة الأمين باي، ملك البلاد، ومردّدين الأناشيد الوطنية وأساسا نشيد الثورة.

    قادة المظاهرة كانوا بالأساس محمود الكافي( ت2001) وخميّس بن بدّه ( ت) والمبعد السياسي عبد الحميد الخمّاسي شهر البنزرتي( ت1987)، ” استعانت السلط لتهديدهم بعدد كبير من الجندرمة  والجنود المسلّحين”.

          وعلى إثر مطالبة الكوميسار الفرنسي محمود الكافي بفضّ المظاهرة باعتبار أنها غير مرخص فيها زيادة على أنها، في تقديره، مخلّة بالأمن العام، ورفض هذا الأخير الانصياع لطلبه وإصراره بالمقابل على أنّ المتظاهرين لن يتفرقوا قبل  أن تستكمل المظاهرة مسلك إيابها من أمام دار الكوميسار بالحي الأوروبي، حيث قصر البلدية وساحة الاستقلال اليوم، إلى ” المدينة” عبر نهج الكاردينال لافيجيري، حيث قضوية الصلح ( (La Justice de Paix حتى صدرت الأوامر بإيقافه هو الآخر ومن معه، وكانوا ستة(6) أشخاص هم، بالإضافة إلى محمود الكافي رئيس الشعبة، خميّس بِدّه وميلاد بن ميلاد ومحمد الهادي بالشرقي وعبد الحميد البنزرتي ومصطفي خلفة، يقول محضر محاكمتهم اللاحق أنهم ” لفتوا الأنظار لما كانوا عليه من هيجان”.

4. المحاكمة:

         تقول جريدة الصباح في عددها الصادر بتاريخ 16 جانفي 1952 إنه تمّ نقل المعتقلات إلى قضوية الصّلح حيث قام قاضي التحقيق باستنطاقهن، ومن الغد، وهو يوم الأربعاء 16 جانفي أحيل جميع المتهمين، وعددهم أربعة عشر (14)، في حالة إيقاف على محكمة بنزرت:

* ستّ (6) موقوفين أصيلي مدينة باجة هم النشطاء السياسيون محمود الكافي وخميّس بِدّه وميلاد بن ميلاد ومحمد الهادي بالشرقي وعبد الحميد البنزرتي ومصطفي خلفة، المشار إليهم سابقا،

* و ثماني(8) موقوفات هنّ الدستوريات الوطنيات القادمات من العاصمة: نايلة بن عمار ووسيلة بن عمار وجميلة قمرة وفاطمة بن علي وفاطمة المرزوقي وجميلة بن نجيمة وخديجة بن إبراهيم ومنجية بن صالح وتيجانية بالحاج وشاذلية بوزقرّو.

 مثل جميعهم أمام المحكمة ليس بتهمة المشاركة في مظاهرة غير مرخّص فيها باعتبار أنّ القانون المتعلق بالتظاهر الجاري به العمل في تلك الفترة، ومنذ صعود الجبهة الشعبية إلى الحكم في فرنسا، لا يعتبر التظاهر جريمة يعاقب عليها القانون، وعلى أساسها تمّت الإيقافات حيث لم يعتقل البوليس الفرنسي إلا من اشتبه فيهم في تنظيم المظاهرة دون عامة المشاركين فيها، ولذلك كانت دائرة الإيقافات محدودة رغم ارتفاع مجموع المتظاهرين إلى بضعة آلاف.

          ومما يلفت الانتباه في المحاكمة، رغم غياب الدفاع عنها، بما في ذلك من إخلال بواحد من أركان المحاكمة العادلة، لتمسك المتهمين بمحاكمتهم دون تأخير وتعبيرهم عن استعدادهم للدفاع عن أنفسهم فيها بأنفسهم، تمسك المتهمين، في إطار الخطة الدفاعية التي اتفقوا عليها، بوقوع المظاهرة، خلافا للواقع، بصفة تلقائية كردة فعل طبيعية على الاعتقالات الحاصلة، وقد لفتت انتباه الأهالي والمتسوّقين فاتبعوهم بصفة عفوية،  صدور الحكم فيها ابتدائيا بعدم سماع الدعوى وترك السبيل بناء على أن المحكمة وإن ثبتت لديها مشاركة المتهمين في المظاهرة إلا أنّ الحجة لم تقم لديها على أنهم ساهموا جميعا في تنظيمها.

          والسؤال الذي يطرح هنا هل كان الحكم الذي أصدرته المحكمة في قضية الحال نابعا عن احتكام هيئة المحكمة إلى القانون أم أنه كان حكما تحت ضغط الرأي العام حيث أعلن الإضراب العام ببنزرت يوم المحاكمة وقامت بها مظاهرة شعبية واجهها البوليس الفرنسي بعنف وسقط فيها جرحى وشهداء، وتم إعلان الإضراب العام بباجة أيضا وانعقد بها اجتماعان احتجاجيان عامان؟

5. وسيلة بن عمّار أم زبيدة بدّة؟

           إذا كانت مختلف المراجع لا تذكر ما اصطلح على تسميته بالمظاهرة النسائية بباجة، وهي تسمية صحيحة، رغم أنها من قبيل إطلاق إسم الجزء على الكلّ لأنّ هذه المظاهرة مثلما بيّنا، وإن كانت نسائية عند انطلاقتها فإنّها سرعان ما تحوّلت إلى مظاهرة جماهيرية، سارت فيها النساء، باختيار من منظميها ولاسيما منهم زكيّة طبّال ومحمود الكافي، جنبا إلى جنب مع الرجال، دونما فصل، علاوة على تصدي عدد من النساء على كامل مسار المظاهرة للقيام بدور تحريضي متقدّم فيها على  غرار تفاحة الوسلاتية التي لم تتردد في اقتحام دار المراقب ولم تنفك عن المبادرة بإطلاق الشعارات المناوئة للاحتلال وزكيّة طبّال التي رفضت أن تتقدّم المسيرة بشكل تنفصل فيه النساء عن الرجال، إذا كانت هذه المراجع لا تذكر هذه المظاهرة إلا وهي مقترنة:

* باسم وسيلة بن عمّار(= وسيلة بورقيبة لاحقا) أساسا وأسماء نايلة بن عمار وشاذلية بوزقرو، بالإضافة إلى سعيدة بوزقرو( = سعيدة ساسي لاحقا)، وجميعهن من الدوائر التي كانت مقرّبة من الزعيم الحبيب بورقيبة آنذاك ومن قرابته أصلا، لاعتبارات يبدو أنها قبل أن تصبح سياسية كانت  متصلة بملف المحاكمة نفسه وحيثيات صداها في الصحف الوطنية،

* مع التركيز على الدور المحوري الذي كان لمحمود الكافي فيها، وهو دور ثابت سواء في استقبال المناضلات الدستوريات واستضافتهن  وفي مرافقتهن خلال اجتماع الزاوية الصمادحية واجتماع الجامعة الدستورية وحضوره المتقدم على امتداد كامل المسلك الذي سارت فيه المظاهرة سواء في شكلها النسائي الأولي وفي صيغتها الجماهيرية التالية، إضافة إلى كونه قد كان المستهدف الأول بالإيقاف والمحاكمة في نهاية الاحتجاجات، وخضوعه للإيقاف مجددا والإبعاد، بمعيّة الدكتور محمد القوّال والناشط السياسي رشيد بن يوسف خلال الإيقافات التي ستطول انطلاقا من 20 جانفي 1952 أكثر من مائة وخمسين إلى ثلاثمائة من قادة الحركة الوطنية في كافة أنحاء البلاد،

            فإنّ الأمر وإن ظل على هذه الصيغة من الإخراج، وهو الرواية الرسمية السائدة والشائعة للأحداث، فإنّ هذه الرواية، وإن لم تكن محل خلاف في كلياتها ستكون محل جدال ليس فقط في بعض تفصيلاتها وإنما أيضا في بعض مفاصلها الكبرى ومنها من قاد المظاهرة النسائية؟ وما هو الدور الذي قامت به الشعبة النسائية الدستورية بباجة فيها، وهو الدور الذي  تسكت عنه المصادر الرسمية رغم أنّه مدار الحدث وقطب رحاه؟ وما هي طبيعة الدور الذي اضطلع به الوفد النسائي الوطني وعلى رأسه وسيلة بن عمار: هل جاء للتعزيز والإسناد والدعم أم جاء لافتكاك الأضواء؟  ومنها أيضا طبيعة التوزيع السياسي للمشاركين في هذه المظاهرة التي كانت بدفع من الزعيم الحبيب بورقيبة وبالتالي من قيادة الحزب الجديد وإعداد وتنظيم من قياداته المحلية نساء ورجالا ولكن أي دور للأطراف السياسية الوطنية الأخرى ومنها الحزب القديم والطرف النقابي وخاصة بعد تحول المظاهرة من مظاهرة نسائية لم يتجاوز عدد المشاركات فيها، على أهميته ودلالته، مائة شخص إلى مظاهرة جماهيرية ضمن بضعة آلاف من المواطنات والمواطنين؟

         تقول زبيدة بِدّة بالصيود ( ت2013)، رئيسة الشعبة النسائية الدستورية بباجة آنذاك، عن مظاهرة باجة، ولكن في تاريخ لاحق لانفصال الرئيس الحبيب بورقيبة عن زوجته وسيلة بن عمّار: ” آنا قدتها، ماهياش وسيلة بن عمّار، آما جاوونا، وكانوا معانا”( كذا؟)، وبالفعل فإنّ  تقارير البوليس الفرنسي تنص على اعتقال زبيدة ومحاكمتها  في تاريخ قريب عقب مظاهرة 4 فيفري 1952 ووقع التحرير في شأنها أنها كانت تنادي بالجهاد المقدس، علاوة على اتفاق الروايات الشفوية المتواترة بالإجماع على أنّها كانت القيادية رقم واحد في اجتماع الزاوية الصمادحية، وفي التعبئة والتحريض في صفوف النساء الباجيات، وفي ترؤس المظاهرة أول انطلاقتها وتواجدها في قلبها عند تحولها إلى مظاهرة شعبية، على أنّ دور زبيدة بْدة ما كان ليخفي دور عشرات السيّدات  الباجيات المنحدرات من فئات البرجوازية الصغيرة والفئات الشعبية على حد السواء وقفنا بتقاطع الروايات الشفوية عند عدد منهنّ هنّ:  زبيدة التواتي، وأم الخير الكافي، وعزيزة الأصفر، وخديجة الخليع، ودوجة الحدّاد، وزبيدة كشك، وزهرة بالشريفة، وخيرة بالشريفة، وحبيبة سومر، وبيّة الفرجانية وتفاحة الوسلاتية، وخاصة زكيّة طبّال، وخديجة طبّال المعروفة في الأوساط الوطنية باسم خديجة الباجية التي سيتم الحكم عليها لاحقا صحبة شاذلية بوزقرّو بالإبعاد والنفي إلى طبرقة ثم إلى رمادة. وهو ما نستشف منه أنّ المظاهرة النسائية بباجة بثقلها التنظيمي ومواردها البشرية وتحريك الشارع فيها كانت بالأساس منجزا سياسيا للمناضلات الدستوريات المحليات تعزّز وتدعم بوفد تونس النسائي الوطني ليتجاوز الحدث بذلك بعده المحلي إلى البعد الوطني ويعطي إشارة الانطلاق لدخول معركة التحرر الوطني منعرجها الحاسم: الكفاح المسلّح.

6. المعركة الثالثة أو ذاكرة المشترك الوطني:

          إذا عدنا إلى المشاركين في المظاهرة الشعبية الكبرى، وقد تعدى فيها عدد المتظاهرين مثلما سبق أن أسلفنا بضعة آلاف، وقد حاولنا الوقوف فيها على ما تيسّر من الأسماء فإنّنا نقف على أسماء عشرات النشطاء السياسيين منهم بالأساس: علي الزلاوي، ورشيد بن يوسف، ومحمد القوال، والشريف الرباعي، وعبد الكريم التواتي، والشاذلي رحيّم، ومحمود بن ساسي، ومصطفى بن يوسف، ومحمد بن الحاج قاسم، والشاذلي بالشريفة، ومحرز بالشريفة، والشاذلي السعيّد، والشاذلي التواتي، وبشير بن صالح، وبشير شويخة، ومحمد شويخة، وعبد العزيز الغراب، وصالح القروي، ومحمد بن كحلة، وعبد الرحمان الشطي، ومصطفى الشطي، وخميّس بن إبراهيم، وحمادي البلاقي، وخميّس البلاقي، والحبيب الحدّاد، والتيجاني الحداد، ومحمد الذيب، وعبد الرحمان الذيب، وعزيّز البلطي، وأحمد المديني، ومحمد الحسيني، ومحمد بوزيان، وسليمان دريرة، وبشير التوكابري، والهادي الصفاقسي، ومحمد القفصي، وحفناوي الموسي، وعبد الباقي النوايلي.

            والمتأمل في تركيبة هذه العينة من المتظاهرين من حيث التوزيع السياسي  يلاحظ أغلبية  من النشطاء المحليين في الحزب الحر الدستوري الجديد، مسؤولين على غرار علي الزلاوي ورشيد بن يوسف والدكتور محمد القوال، رئيس جامعة الشمال الغربي للحزب الدستوري الجديد، ومناضلين من الصف الأول مثل الشريف الرباعي والشاذلي بالشريفة ومحمد بن كحلة ومصطفى بن يوسف وغيرهم، ولكن دون أن تكون هذه التركيبة منحصرة في الدستوريين الجدد ليس إلا، إذ نجد في صفوف المتظاهرين على سبيل المثال محمود بن علي بن الحاج محمد بن ساسي(ت 1968)، وهو من أوائل المنخرطين في الحزب الحر الدستوري التونسي- اللجنة التنفيذية أو الحزب القديم، والشاذلي رحّيم (ت 1984)، وهو ناشط نقابي وسياسي اشتراكي والكاتب العام للاتحاد الجهوي للنقابات بباجة التي كانت منضوية في إطار الاتحاد الإقليمي التابع للكنفيدرالية العامة للشغل،  والثابت أنهم لم يكونوا حاضرين بأشخاصهم  وإنّما بصفاتهم وبرفاقهم، بما يمكن أن يستفاد منه أنّ الانقسامات، سواء في صفوف الدستوريين بين القدامى والجدد أو في صفوف الشعب الدستورية نفسها لم تحل دون وحدة الصف الوطني في هذه المحطة المنعرج في تاريخ مقاومة الاستعمار، وأنّ المعركة الثالثة والأخيرة في مسار التحرر الوطني التي مهدت للاستقلال الداخلي قد نجحت في توسيع دائرة القوى السياسية والاجتماعية المساهمة فيها بحيث ضمت علاوة على الدستوريين الجدد الذين شكلوا رأس حربة هذه القوى، الحزب القديم والاشتراكيين، والنقابيين،،،

          وإذا ما تمعنّا في تركيبتها الاجتماعية التي وإن شكّلت الفئات الشعبية من حرفيين وأصحاب مهن صغرى وعاطلين عن العمل ومهمّشين قاعدتها الأساسية فإن الفئات الاجتماعية المنتمية إلى مختلف شرائح الطبقة البورجوازية الوسطى قد كانت حاضرة فيها بدورها وبشكل متقدم ولاسيما في مستوى العناصر القيادية والنشطاء السياسيين الميدانيين، ولعل وحدة الصفّ في جبهة الخط الوطني هذا القائم على التنوع والتعدد الاجتماعي والسياسي والجغرافي هي التي ستفتح المجال وخاصة خلال مظاهرة 4 فيفري 1952 ومظاهرة 25 ماي 1952 لتعزيز صفّ الممانعة بقوى جديدة قطب الرحى فيها إلى جانب مختلف فئات المجتمع المديني و الريفي الطلبة والتلاميذ والأحداث فضلا عن المهمشين أي ” جميع طبقات المجتمع” وفقا لتعبير جريدة ” لاديباش تونيزيان” في تاريخ لاحق.

د. زهير بن يوسف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.