مجزرة 11 مارس 1943 بهنشير الصفصافة: جريمة حرب

0

زهير بن يوسف

نقطة معتمة في الذاكرة الوطنية تلك التي تخص ما أقدمت عليه القوات البريطانية من انتهاكات في حق أبناء الشعب التونسي بذريعة التعاون مع القوات النازية والنسيان الذي ران على ضحايا تلك الانتهاكات ولا سيما منهم من دفعوا حياتهم ضريبة لانتمائهم إلى هذا الوطن مثلما هو الحال بالنسبة إلى شهداء هنشير الصفصافة، الواقع حوالي 20 كلم شمال شرقي مدينة باجة، طريق طبرقة.

1. مصـادر الشهادة:

وثّقنا هذه الشهادة بالأساس انطلاقا من الملاحظات الميدانية التي جمعناها من الموقع الذي كان مسرحا لهذه المجزرة وهو ضيعة هنشير الصفصافة ومقبرة المكان، ومن جملة الحوارات التي أجريناها مع عدد من المواطنين الذين عايشوا تلك الأحداث أو كانوا معنيين بها مباشرة وفي مقدمتهم الأستاذ بنعيسى بن يوسف المحامي( ت2003 ) نجل الشخصية الأولى التي استهدفتها المجزرة وظلّ اسمها في الذاكرة الجماعية مقترنا بها نعني الشهيد عبد الكريم بن يوسف ( 1901 – 1943 ).

2. احتكاك مع المعمّرين:

كان عبد الكريم بن يوسف واحدا من رموز الأرستقراطية المدينية المحلية(1)، وبحكم موقعه الاجتماعي كملاّك عقاري فضلا عن ثقافته التقليدية المحافظة كان مرشحا لعسر التلاؤم مع ظاهرة الاستيطان الزراعي التي كانت جهة باجة بسهولها الخصبة ومواردها الفلاحية الغنية واحدا من أبرز مراكز ثقلها بالبلاد ، ولذلك فبقدر ما كانت يده مبذولة للحركة الوطنية كانت علاقاته مع سلطات الحماية وممثليها المحليين، على عكس بعض الوجاهات المحلية الأخرى، غير ودّية.

 وكان مدار صراعه المضمر معها ذا واجهة مزدوجة اجتماعية واقتصادية زيادة على المضمون السياسي، من ذلك أنّه:

– كان يقاطع المآدب التي دأب المقيم العام بيروطون Peyrouton (1933-1936، 1940 ) على إقامتها ولا يشارك فيها(2)،

–  ولا يولي أي اعتبار للمراقب المدني كليمون R.Clément،

– ولا يعبأ بالقايد ممثل السلطة الأهلية،

– بل إنه لم يتردد بتاريخ  6 جويلية 1942 في تقديم استقالته من المجلس البلدي، وقد كان مستشارا به عن الأهالي منذ 24 جوان 1937.

–  وبالتزامن مع ذلك اشتد الاحتكاك بينه وبين المعمرين انطلاقا من أواخر العشرينات لمّا ركّز نشاطه الفلاحي على الوقوف في وجوههم بتشغيله للعمّال التونسيين الذين كانوا يتعرّضون لاضطهاد الأجانب وإصراره على مزاحمة المعمرين ومنافستهم في المزادات، وقد كانت أشهر نزاعاته العقارية مع لوباز Lopez وهو معمّر بوادي الزرقاء، ذلك النزاع الذي خسر فيه المعمّرون رهانهم ضدّه بعد أن نجح في إقامة دعوى ضد المعمّر المذكور بعد  أن أراد التراجع عن إتمام إجراءات بيع ضيعته للفلاح التونسي بعد أن كان قد فوّت له فيها مستغلا مناخ القمع الذي عمدت السلطات الاستعمارية تسليطه على الشعب التونسي خلال حكم الماريشال بيتان Pétain نتيجة لما عبّر عنه غالبا من ميول نحو قوات المحور على إثر انهزام فرنسا واجتياح القوات النازية لترابها، وتمكّن من كسب القضية ممّا زاد في تكثيف المشاعر العدائية نحوه.

3. تحقيق حول المجزرة:

تمثلت ملابسات المجزرة في الفترة التي تحولت فيها البلاد التونسية فجأة إلى ميدان مباشر للعمليات الحربية بين المحور والحلفاء بداية من نوفمبر 1942 وتحديدا حينما كان الجيش البريطاني الأول يتقدم باتجاه محاصرة جيوش رومل Rommel على مستوى جبهة الشمال الغربي التونسي، وكانت أراضي عبد الكريم بن يوسف واقعة على طرفي الجبهة في مستوى عمادة بوحزام من معتمدية باجة الشمالية اليوم(المراقبة المدنية بباجة سابقا) وإحدى العمادات الراجعة بالنظر إلى المراقبة المدنية بماطر آنذاك، هنشير الصفصافة كان واقعا في آخر الواجهة لدى الأنقليز في حين كان هنشير القريّات واقعا في دائرة نفوذ الألمان أي في المناطق التي كانت قوات المحور وجيوش الحلفاء تتنازع السيطرة عليها.

وقد رفض عبد الكريم بن يوسف أن يترك أرضه أو يغادر مقرّ إقامته الريفي رغم إلحاح أهله الذين خيّروا أن يستقر بهم المقام في منزل العائلة بالمدينة. وممّا شجّعه على المكوث حيث ينبغي أن يدير أعماله أنّ أربعة من أبناء عمومته كانوا يقيمون بمعية عائلاتهم في نفس المجال الجغرافي وعلى مسافات قليلة التباعد فرارا من الغارات التي استهدفت بعض المواقع بباجة المدينة نعني الحاج عبـد الله بن يوسف (ت1950) وهو دستوري من مناضلي الرعيل الأول وأحد أبرز الأعضاء المؤسسين للجامعة الدستورية بالمكان في 18 أفريل 1934 وعبد الرحمان بن الصادق بن يوسف والصغير بن الحاج منور بن يوسف والد المناضل رشيد بن يوسف الذي سيفقد في هذه المجزرة الرهيبة اثنين من أبنائه كما أنه سيفقد في اليوم الموالي لها حياته قـهرا وعثمان بن عبد الرحمان بن يوسف الذي سيفقد أيضا أحد أبنائه.

ولمّا كان كلّ من نور الدين بن يوسف وحمادي بن يوسف يدرسان بمعهد كارنو بالعاصمة، وقد منعتهما ظروف الحرب من الالتحاق بمقر إقامة عائلتيهما بهنشير القريّات فقد أرسل لهما والدهما وكيله لاستقدامهما عبر ماطر بعد أن جهّزه بالخيل والرجال وبعد أن تمّ إعلام المراقب المدني بباجة والحصول على موافقته بخصوص طريقة العبور من جبهة إلى أخرى.

وفي الأثناء كان الجيش البريطاني يرصد هذه التحركات عن بعد، على أنّ تراجعه عن المجال المذكور بسبب تقدّم قوات المحور على مستوى هنشير الشرشارة وعودته إلى السيطرة الميدانية عليه من جديد ترافق مع حضور ضابطين من الاستخبارات الألمانية إلى هنشير الصفصافة يوم 10 مارس  وطلبا طعاما لم يكن بإمكان العامل الذي صادفاه هناك وهو المسمّى ابن الصادق أن يرفضه لهما، وما إن تمّت معاينة العملية حتى كانت المكيدة قد استكملت آخر حلقاتها، هذه هي رواية الأستاذ بنعيسى بن يوسف.

وتذهب رواية أخرى أكّدها السيد عبد الستار القسطلّي (1930-2008 )، وهو من أبرز رموز الذاكرة الجمعيّة المحلّية بالجهة، أنّ الذريعة كانت على ما تواتر وشاية أنهاها المسمى محمد البدوي إلى أسماع الخليفة بمركز العمل آنذاك (عبد العزيز السـ ) لتصل تباعا إلى كلّ من القايد محمد العجيمي (1938 – 1943) فالمراقب المدني روبار كليمون

Zouheir, date d’envoi : Hier, à 23:39

Robert Clément (1940-1943) وصولا إلى الجنرال ألفراي أندرسون Alfrey Anderson قائد الجيش البريطاني الأول الذي اتخذ بتحريض من الفرنسيين قرارا عسكريا تعسفيا بإعدام كلّ من يكون حاضرا بموقع الحادثة المزعومة من الذكور رميا بالرصاص دونما تحقـيق ولا محاكمة.

4. المجزرة: مكيدة مدبّرة أم وشاية كيدية؟

يوم 11 مارس 1943 على الساعة الثالثة بعد الزوال كان 1500 جندي أنقليزي من الجيش البريطاني الأول الذي اشتهر بكرهه للأهالي وحقده عليهم وسلوكاته الاستفزازية نحوهم يحاصرون المكان حيث قاموا بتمشيط كل المباني بحثا عن وثائق وخرائط مزعومة لم يجدوا لها أثرا، ولمّا أعيتهم الحيلة بادروا بإيقاف كلّ من وجد بالضيعة من الذكور، وعلى شفا حقير  كان قد أعدّ للغاية الاحتماء من الغارات الجوية  تمّ تنفيذ الحكم الأعمى بالموت رميا بالرصاص في عشرة أشخاص(3)، تسعة منهم تونسيون وعاشرهم مغربي، هم كلّ من:

1. عبد الكريم بن محمد بن الحاج منوّر بن يوسف (42 عاما)، فلاّح.

2 . منوّر بن الصغير بن الحاج منوّر بن يوسف (30عاما) ابن عم الأول.

3. الطاهر بن الصغيّر بن الحاج منوّر بن يوسف (25عاما) شقيق السابق.

4. نور الدين بن عثمـان بن عبد الرحمان بن يوسف (17عاما)، تلميذ بالليسي كارنو(4)،

5. محمد الكوشادي، رئيس العَمَلة.

6.  منور بن الصغير الجعيدي، عامل.

7. فرحات بن الصغير الجعيدي، عامل ، شقيق الأول

8. حمــيدة بن منصور ، عامل .

9. حامد بن مبروك بن أحمد الطبوبي، عامل .

10. حارس ليلي مغربي ( لم نتمكّن من ضبط هويته ).

وجالت أيادي الجنود في الضيعتين نهبا وإتلافا وحرقا ولم ينسحبوا إلا بعد أن أصرّوا على ترك الشهداء العشرة في العراء لمدّة يومين بلياليهما وتهديد كلّ من تسوّل له نفسه مواراة جثمان أي واحد منهم الثرى.

وقد تأكد لنا في غضون سنة  2018  على إثر حضور فريق من الإعلاميين والأكاديميين الإيرلنديين للوقوف على طبيعة التجاوزات التي ارتكبتها القوات البريطانية التي كان يقودها الجنرال أندرسون، وهو حضور يعد في حد ذاته اعترافا بوقوع تلك التجاوزات،  بتقاطع القرائن ومكافحة المؤيدات، أن الكتيبة التي ارتكبت المجزرة، كانت كتيبة إيرلندية،  The Irish Brigade وهذا مهم في سبيل الوصول إلى كشف الحقيقة.

في صبيحة يوم 12 مارس أسلم الصغير بن الحاج منور بن يوسف الروح قهرا بعد أن كان قد فقد ابنين له في اليوم السابق ليرتفع بذلك عدد ضحايا المجزرة إلى أحد عشر شخصا.

 وظلت زوجته السيّدة خديجة بنت عبد الرحمان بن يوسف تواجه هذه النكبة بمفردها ثمانية وأربعين ساعة بصبر وتجلّد يعجز عنهما حتى أشجع الرجال.

 ولم تنج الضيعـات الموجودة في الجوار من الانتهاكات إذ تمّ تمشيطها بالكامل وصدرت الأوامر باقتياد كلّ نزلائها من النساء والرجال والأطفال مشيا على الأقدام لعرضهم على مركز الفرز بمقرّ المراقبة المدنية بباجة.

 ولم يسلم من هذه الإجراءات المهينة والحاطّة بالكرامة حتّى قاضي البلد محمد الأمين السعيد (ت 1946 ) نفسه.

فهل كانت هذه الانتهاكات التي ارتكبتها القوات البريطانية مختلفة عن تلك التي كان الجيش النازي قد مارسها في أوكرانيا أو في أورادور بفرنسا؟

5. ناج من المجزرة!

                  لم ينج من موت كان محققا إلا رشيد بن يوسف  (1921-1976) الذي سيكون واحدا من أبرز رموز قيادات الحركة الوطنية على المستويين الجهوي والإقليمي(5)، ذلك أنّه تحوّل يوم الواقعة إلى ضيعة والده الشيخ الصغير بن يوسف، وقد كان خالي الذهن من المجزرة التي ستحلّ بها، ولكن حال وصوله إلى الموضع المسمى عين بلد حاصره الانتشار الأنقليزي ممّا اضطره إلى أن يقفل راجعا إلى مقر سكنى العائلة بباجة ولولا الحاجز العسكري الذي حال اعتباطا دونه والعبور إلى حيث أراد أن يمضي لكان حتما في عداد الموتى.

6. حفظ الذاكرة وإعادة الاعتبار:

هذه عيّنة من سيرة شهداء الوطن المنسيين وضحايا انتهاكات القوى الاستعمارية. ولعل الواجب الوطني الأدنى إزاء ما قدموه يتمثل في:

– إعادة الاعتبار لهم بإدراج أسمائهم في السجل القومي لشهداء الوطن

– وأن تنقش أسماؤهم في ذاكرة الأجيال بحروف من ذهب إجلالا واعتبارا،

– وأن تقام لهم مسلّات تذكارية على غرار تلك تنتصب بقصر مزوار تخليدا لمعركة 1مارس 1943التي أوقفت فيها جيوش الحلفاء النازيين و” أنقذت” باجة وتلك التي تنتصب بسيدي نسير، قرب تاهنت، على طريق ماطر، تخليدا لدحر الفرنسيين الهجوم الألماني الأول في 21 نوفمبر 1942،

– وأن يتم إدراج موضع المجزرة أي هنشير الصفصافة ضمن أماكن الذاكرة، كشفا للحقيقة وحفظا للذاكرة وإعادة اعتبار لضحايا هذه الانتهاكات، وأحسب أن ذلك ممكن بالنفاذ المعمق إلى الأرشيف العسكري البريطاني والأرشيف السري الفرنسي.

الهوامش:

1) Pellissier(P): Description de la régence de Tunis p 32-34&229-231

2) تحتفظ الذاكرة الجمعية المحلية بالمقابل بملزومات من الشعر الملحـون تشنّع بمن ” تعاون” أو تخاذل..(باجة بلاد (،،،،) عام اللي جاء بيرطون  المقيم، محمد ( ،،،،،،) خطب خطبة ما تسواشي، خذا نيشان بلاشي، يجري ويتلفت وراه …)

3)أشار سعيد المستيري في كتابه المنصف باي ج1ص191(بالفرنسية) أنّ الشهداء كانوا 14 جميعهم من عائلة ابن يوسف، وهذا غير دقيق، وذكر الحبيب المنكّبي في كتابه ذاكرة مناضل ص 19 أنّ الضحايا كانوا 13، وهذا أيضا غير دقيق والأضبط هو ما ذكرنا.

4) أفادني السيد حمادي بن عثمان بن يوسف، وهو أحد شهود هذه المجزرة الرهيبة أنّ القدر وحده هو الذي قاد شقيقه الشهيد نور الدين بن يوسف إلى حيث لقي حتفه. فقد كان مقيما بضيعة البرج حيث مقر سكنى والديه، على بعد كيلومتر واحد من هنشير الصفصافة الذي  سيكون مسرحا لهذه الجريمة إلا أنه كان يصر  على التنقل يوميا من البرج إلى الصفصافة تشده إلى ذلك شدة تعلقه بعمه عبد الكريم بن يوسف. وفي يوم 11 مارس 1943 المشؤوم بالذات أشار عليه والده بأن لا يتحول إلى الصفصافة نظرا إلى ظروف الحرب. غير أنه، وفي غفلة من الجميع التحق بهنشير العم . لما رأى عمه عبد الكريم وقد سيق إلى حيث سيعدم

رميا بالرصاص، لم يتمالك الفتى نفسه، تشبث به، تعلق بثيابه، وهو يبكي، طلب منه الغم أن يبتعد، طالبه عمه الطاهر أيضا أن يبتعد، وعمه منور كذلك. القوات العنصرية الحاقدة لم تستوعب الموقف، مات فيها الحس الإنساني، الحنود يهددون والشاب يصر على أن لا يسلم عمه للموت،  إلى ان انطلق الرصاص الغادر ليردي الجميع.

5) علي البلهوان، تونس الثائرة،ط.تونس1957ص48،الحبيب المنكبي، ذاكرة مناضل ط تونس 2003 ص ص 64،93. أسهم رشيد بن يوسف بدور متقدم في الكفاح المسلح وكان مقر سكناه مركزا لإيواء المقاتلين ومداواة الجرحى منهم، أوقف مرارا من قبل سلطات الحماية وتعرض محل سكناه للمداهمات تكرارا كما سجن مرّات من ذلك حادثة 20أوت 1952 عندما دخلت قوات الاحتلال بيته وبيت اثنين آخرين من قادة جامعة الحزب هما علي الزلاوي( 1915 – 2000 ) ومصطفى خلفـة ( 1917 – 2001 ) وألقت القبض عليهم جميعا بعد أن دسّت في منازلهم الأسلحة والذخيرة وتمّ في نفس الوقت إيقاف عبد العزيز البحري ( ت 1993 ) الأمين العام لنقابة المزارعين المنتجين،انتدب رشيد بن يوسف في مطلع الاستقلال معتمدا بالمكنين ثم عّين مندوبا عاما للحزب بالكاف،  استقال احتجاجا ورفض وساما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.