الجذور الثقافية لمجلة الأحوال الشخصية
د. زهير بن يوسف
1. مشروعية سوسيو- تاريخية
لم يكن صدور مجلة الأحوال الشخصية فقط انتصارا للطاهر الحداد ومشروعه الإصلاحي ومأسسة له وإنما أيضا قيمة مضافة حاسمة في مسيرة النضال من أجل المساواة بين الجنسين ومنها المنع القانوني للتعددية الزوجية، وهو إجراء قانوني لم يكن جديدا على المجتمع التونسي لاعتبارات سوسية- ثقافية تاريخية منها أسبقية العمل عرفيا في البلاد التونسية بصيغة ما يعرف بالزواج المشروط او الجعل التحريمي او الصداق القيرواني مما يسر استساغة إلغاء تعدد الزوجات وتقبله.
2. الزواج القيرواني زواج أحادي
تنص بعض رسوم الزواج في الأوساط المدينية التونسية كما في القيروان وتونس وباجة وسوسة والمنستير وصفاقس وغيرها على شروط عديدة تؤكده عبارات ذات صبغة قانونية مضبوطة، وهي شروط أقر الفقهاء أنها من الشروط المقبولة، منها:
أ. ” وبعد تمام العقد وانبرامه طاع الزوج لزوجته بالجعل التحريمي على عادة نساء القيروان طوعا تامّا”.
ب. و”ألا يتزوّج عليها امرأة سواها الاّ بإذنها ورضاها، استجلابا لمودتها وتقصيا لمسرتها، وإن فعل ذلك بغير رضاها فقد جعل أمر الدّاخلة عليها بيدها هي تطلّقها عليه بأي أنواع الطّلاق شاءت من الواحدة الى الثلاثة تمليكا لا توكيلا”.
بما يعني تمكن المرأة بمقتضى هذه الشروط من حماية موقعها داخل مؤسسة الزواج وامتلاكها لآليات الدفاع عن حياتها الزوجية بكل ما كانت السياقات التاريخية تتيحه من ممكنات بما في ذلك:
* حق رفع دعوى في الطلاق ضد زوجها بما يعني عودة العصمة الزوجية إليها.
*والحق القانوني في إبطال عقد زواجه بالثانية إبطالا تاما وباتا بطلاق بائن أو إبطالا ظرفيا بطلاق رجعي متى أخل الزوج بشرط التعاقد الأساسي وهو عدم الزواج عليها بثانية دون توفر شرط الرضى.
3. الصداق القيرواني ومشروعية التاريخ
تطرح مداخل عديدة في منتهى الأهمية للوقوف على جذور هذه الظاهرة وتاريخيتها منها أن أصول الزواج القيرواني، بحسب عدد من الدارسين، تكمن في حل ذكي، طريف وناجع أوجده المجتمع المحلي للتوفيق بين:
– التعددية الزوجية المشرقية الوافدة مع الفتح العربي، من جهة،
– وصبغة العائلة الموحدة الموروثة من التقاليد المسيحية الكاثوليكية التي كانت سائدة بأفريكا/ إفريقية خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة وعرف ما يسمى” تامزالت” في المجتمعات الأمازيغية القديمة
أو “حق الشقاء”، وهو العرف الذي يفرض على الزوج التخلي لزوجته عن نصف أملاكه في حالتي الطلاق أو زواجه من أخرى من جهة ثانية، مما جعل التعدد وإن كان موجودا في العرف الجاري إلا أنه كان محدودا في الواقع والتاريخ، ومبدأ حق الشقاء هو المبدأ الذي وقع الاستئناس به في صياغة الفصل 49 من مدونة الأحوال الشخصية المغربيةلسنة 2004 في إعطاء المرأة الحق في أن تشترط على زوجها ألا يتزوج عليها.
ولكن لا يمكن التسليم بهذه الفرضية تماما متى علمنا ان المدونة الفقهية المشرقية عرفت بدورها ظاهرة الزواج المشروط وان الجعل التحريمي انتشر مشرقا ومغربا.
4. الجعل التحريمي ومشروعية الثقافة
الثابت أن هذه الصيغة في الزواج الأحادي لم تكن منحصرة في مجال القيروان أي البلاد التونسية حاليا وإنما كانت ظاهرة مغاربية:
– فقد أشار إليها ابن تيمية تحت عنوان صداقات، أي عقود قران، أهل المغرب القديمة لما كانوا على مذهب الأوزاعي”،
– أما برانشفيك فقد وقف على الظاهرة نفسها فيما سماه بالصداق الأندلسي الذي كان يفرض على الزوجين” المعاملة باللطف والمودة،،، وألا يتزوج عليها”،
– وذكر ابن العطار صيغة مماثلة للصداق القيرواني كانت رائجة في بلاد شنقيط، موريتانيا حاليا، تنص على”ان لا سابقة( للزوجة) ولا لاحقة(لها) وإلا فأمرها(= الزوجة) بيدها”.
وتؤكد الوثائق الأرشيفية الخاصة على أن هذا التقليد في الزواج كان معروفا بإفريقية(= تونس) قديما منذ عهد الولاة، لاقترانه بزواج أبي جعفر المنصور بأروى القيروانية، وقد قننته فتوى لابن أبي زيد القيرواني وردت في كتاب المعيار للونشريسي ذكرها الدباغ في معالم الإيمان منذ ق 7 هـ، واحتفى به كتاب الجامع لفتاوى المازري،واتسع نطاقه بكثافة تواترية لافتة خلال القرن التاسع عشر، ورغم أنه ظل ممارسة نخبوية على هامش المجتمع العميق وبالتالي ممارسة ذات معنى محدود فقد تواصل العمل به إلى فترة قريبة من صدور مجلة الأحوال الشخصية.
5. استخلاصات
تمثل صيغة الجعل التحريمي او الزواج المشروط صيغة تراثية في اقتلاع المرأة لحقوق في الأحوال الشخصية مساوية لحقوق الرجل تمثل سبقا وريادة تشريعية في مجال حماية المرأة لحقوقها كإنسان كامل الإنسانية وهي تشكل إلى جانب قاعدة حق ولي الأمر في تحريم المباح إذا كان فيه ضرر، واحدة من الأصول الفقهية التي اعتمدها المشرع التونسي في منع تعدد الزوجات فضلا عن تمثلها لإرادة المشرع في إطار قراءة سهمية بعبارة د. محمد الطالبي تتجاوز حرفية النص إلى المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية.
و لئن ارتبطت ظاهرة الصداق القيرواني تاريخيا بالنخب المدينية فإن ذلك لم يكن امتيازا طبقيا في الأوساط الأرستقراطية وإنما كان عرفا اجتماعيا حضريا أو مسلكا مدنيا متحضرا في مجال الأحوال الشخصية على حد تعبيرنا اليوم.