الشمال :عطش مزمن رغم وفرة المياه

0

لن أضيف شيئا عما قيل ويقال في شأن انقطاع الماء عن مناطق عديدة وخاصة في الشمال الغربي حيث توجد بين ولايتيْ باجة وجندوبة ( أكثر المناطق عطشا) عدد من السدود والبحيرات الجبلية مما يجعل منها ثروة طبيعية وطنية هامة لا بالنسبة إلى إقليم الشمال فحسب بل إلى البلاد التونسية بصفة عامة.فما لا يقبله العقل هو أن تعطش ولعقود طويلة المناطق المتاخمة للسدود والبحيرات والاوديةشتاء وصيفا ومن الغريب والعجيب أن يرى زائر تلك المناطق الأهالي وهم يقطعون مسافات طويلة لجلب الماء من العيون والآبار البعيدة على البهائم أو مشيا على الأقدام في تلك الأواني البلاستيكية البائسة. وهنا وجب الوقوف لحظة عند المشكل دون مبالغة وبكل الموضوعية ..على مدى السنوات العشر الأخيرة جلت في ربوع الولاية شرقا وغربا شمالا وجنوبا.. وهناك جهد يذكر فيشكر لمصالح وزارة الفلاحة وأساسا إدارة الهندسة الريفية فبالتعاون مع الجمعيات المائية حاولت التخفيف من المعاناة غير أنها لم تحقق المنشود لا في تغطية جميع المناطق الريفية ولا حتى في المحافظة على وصول الماء إلى المناطق التي سبقت وأن غطتها. ويعود ذلك إلى أسباب عدة منها صعوبة التضاريس والجغرافيا وهي التي منعت من أن تكون تغطية المناطق تحت إشراف الصوناد فالشبكة التي تنجزها الصوناد تكون ذات مواصفات معينة ذات كلفة مادية كبيرة من بينها بناء الخزانات في المرتفعات وتركيز المضخات الكبرى وتعهد كل ذلك بالصيانة. إذن التضاريس الوعرة تمنع من إيصال الماء لطالبيه في كل المناطق ..أضف إلى ذلك عامل آخر مهم وهو التشتت السكاني فلا يخفى علينا أن أريافنا تعاني إضافة إلى التضاريس الصعبة من تشتت سكاني رهيب فالبيوت والأكواخ متناثرة في الغابات والهضاب والوهاد والاودية والمنحدرات..وهذا يعسّر وصول الماء الصالح للشراب حتى وإن كان قريبا من السدّ.. أضف إلى ذلك تشتت الملكية وتعنت بعض المواطنين والخصومات العشائيرية التى تعطل في بعض الأحيان مشاريع تزويد المناطق النائية بالماء طلبا لتعويضات مشطة أو نكاية في خصم لدود أو جار عنيد.ومع ذلك أقول أن أهم عامل يبقى إهمال الدولة لمواطنيها ماضيا وحاضرا.فرغم مجهودات الدولة الوطنية فجر الاستقلال ورغم جسامة المهمة التنموية فإن هذه الدولة لم تكن عادلة في توزيع الاهتمام بين الجهات التضاريس الصعبة تغلبت عليها الدولة إذ مدت أنابيب تنقل مياه الشمال عبر الأودية والسهول والهضاب إلى الوطن القبل وإلى الساحل والجنوب..ثم إن دولة الاستقلال كان يمكن أن تعالج مشكلة تشتت السكان وتشتت الملكية آنذاك فماذا لو أنشأت مناطق سكنية في الأرياف تتوفر فيها جميع المرافق بما في ذلك الماء الصالح للشرب والكهرباء والمدرسة والمستوصف والطريق..تألمت سكان الريف بالإقامة في تلك القرى..صحيح هناك عادات وتقاليد في السكن والحياة عموما تعود إلى قرون وهي متأصلة فينا لكن كان بالإمكان تغيير حياة سكان الأرياف إلى الأفضل على مدى ستين عاما.الدولة تتحمل مسؤوليتها كذلك في مرة أولى لما فشلت تجربة التعاضد وفي مرحلة ثانية لما أخذت قبل بضعة عقود تفرط في كثير من الضيعات الدولية للخواص إذ كانت تلك الضيعات بشكل من الأشكال تجمعات سكنية ريفية ولما بيعت انفض ذلك التجمع السكني وازداد الريف نزوحا وتشتتا.اما اليوم فإن الدولة ونظرا للإهمال والاستهتار لم تقدر على إنجاح تجربة الجمعيات المائية إذ تعاني أغلبها من الإفلاس مما يصعب ضمان تدفق الماء في تلك المناطق وإن لم يكن على مدار اليوم فلبضع ساعات فحسب بل قد يطول الانقطاع ليبلغ أسابيع وأشهرا. لا يجب أن نغض الطرف على سبب آخر مهم وهو المواطن نفسه إذ تسبب بأنانيته المفرطة وانتهازيته في فشل الجمعيات المائية فهو لما يجد الفرصة مواتية يسرق ويختلس ويدمّر ويخرّب التجهيزات ويسرق الماء ليروّي الأرض وليسقي أنعامه في حين أن كميات الماء التي تصل إلى منطقة معينة بعد جهد جهيد مخصصة للإنسان لا للحيوان..ولكن كيف نقنع إنسانا كان يستغل عين ماء جارية في حقله أو نبع ماء في جواره بأن الماء ثروة وطنية ملك للجميع ؟إذن الأسباب عديدة ومتنوعة ومنها ما هو تاريخي قديم ومنها ماهو جغرافي طبيعي ومنها ماهو اجتماعي ومنها ماهو سياسي ومنها ماهو فني تقني لكن الأكيد أن الحلول لن تستعصي على التونسي إدارة وأفرادا إذا اعتصم الجميع بمصلحة الوطن والإرادة الصادقة لتجاوز هذه الصعوبات بل هذه المآسي ..فليس أبلغ من مأساة أن تعاني مناطق الشمال من الفيضانات شتاء والعطش صيفا وأحيانا يكون التحول من النقيض إلى النقيض في في بضعة أشهر معدودة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.