نساء متصوفات(2)المرابطة مريم الحُرّة: إمرأة بألف رجل
د. زهير بن يوسف
1 النساء المنسيات هي المرابطة أم يحيى مريم المنياوية الملقبة بالحرّة، واحدة من أبرز أعلام التصوّف النسائي في المجال المغاربي خلال الفترة الموحدية. لم يفردها مصنّفو المناقب بمؤلف خاص إلا أنّ كتاب ” الأسرار الجليّة ” الذي يعتبر المصدر الأساسي لترجمتها وعنه نقلت جميع المصادر الأخرى حافل بكثير من المعطيات التاريخية حول سيرتها ويعود ذلك إلى صلتها الوثيقة ” بشيخ الصلحاء في عصره ” أبي يوسف الدهماني. وتقصى بعض أخبارها أبو القاسم بن ناجي في إكماله لمعالم الإيمان واختصها محمود مقديش بالترجمة في الباب الرابع من كتابه نزهة الأنظار ضمن من سماهم ” أهل الخير والصلاح من العلماء والأولياء المتقدمين بصفاقس ووطنها”.2. سيرة متروكةيبدو أنه تشكلت حول شخصيتها سيرةٌ أنموذجية مُترعة بما لها من كرامات وما جسّدته في تجربتها الروحية والحياتية من خصال الأسوة القيمية والسلوكية كانت متداولة خلال القرن XIII/VII وبلغت الدبّاغ القيرواني( ت696/1298) غير أنه أهملها فلم يدوّن منها سوى شذرات لقوله في ” الأسرار الجليّة”: ” وكانت هذه الحرّة الصالحة من كبار الأولياء، ولها كرامات كثيرة تركناها للاختصار”، أما إكمال ابن ناجي فالظاهر أنه ليس له من فضل سوى رواية ما حبّره الدباغ بشأنها في كتابه معالم الإيمان: الكتاب الذي لم يصلنا أصله.3. على سبيل السيرةولدت هذه ” الصّالحة ” بالمِنية من قرى جبنيانة (صفاقس) مستقر أبي إسحاق الجبنياني( ت369/1156) في تاريخ غير محدّد ولكنه يعود بالتأكيد إلى أواخر العهد الزيري يتراوح تقريبا بين عام 1130 و 1150م. واستقطبها في مبادئ أمرها أبو زكرياء بن هناص الهيبوني (ت 621/1224) أحد أخيار إفريقية السبعة الذين رحلوا منذ سنة 575/1179 إلى بجاية برسم لقاء أبي مدين شعيب ولكنها سرعان ما عقدت ” بيعتها ” لأبي يوسف الدهماني ” فكانت من أصحابه الأولين وخواصّه ” لمدة تزيد على ربع قرن. وستتحوّل بلدة المِنية بفضل استقرار الست أم يحيى بها وعودتها باستمرار إليها، على كثرة تنقلاتها، إلى نقطة استقطاب هامة للصلحاء ومركز إشعاع داخلي أعطى للحضور الصوفي بها حيوية وفاعلية أكبر.وآية ذلك تردد كبار العارفين على هذا المركز المنسي ومنهم أبويوسف الدهماني نفسه وتحول ” بيت” المرابطة أم يحيى إلى فضاء لنزول المريدين والأصحاب وإقامتهم به آناء الليل وأطراف النهار للمجالسة والسماع أي عقد مجالس الفقه ومجالس الذكر على حد سواء، تذكر لنا المصادر منهم شخصية محمد البرزلي وتشير إلى لآخرين بصيغة الجمع دون أن تسميهم بما نستنتج معه أن ظاهرة الصحبة التي ستعرف مع أبي إسحاق الجبنياني وستشتهر مع أبي الحسن الشاذلي لم تكن ظاهرة ذكورية محضا بما أن مثال المرابطة أم يحيى واصحابها أنموذج يكسر هذه القاعدة ويؤكد مرة أخرى استثنائية الأنموذج الولائي المحلي.4. مريم الحرّة: وليّة من صاحبات المكانةلمّا كانت هذه ” العابدة” كما يسميها مقديش معدودة من ” كبار الأولياء ” فيبدو أنها بالإضافة إلى ما انفكت تُحظى به من نفوذ روحي في صفوف الفقراء كانت وثيقة الصلة بأبرز شخصيات إفريقية (تونس) الولائية في العهد الموحدي مثل:- أبي علي النفطي ( ت 610/1213) ” سلطان الجريد ” – أبي يوسف الدهماني ( ت621/1224)- أبي زكرياء بن هناص الهيبوني (ت 621/1224)- وأولاد الرقيق: أعيان السلسلة الولائية للولي محمد الرقيق الملقب بأبي عكازين من تيار الصوفيّة الأشراف، وهم مجموعة من الصالحين كانوا ينزلون برباط نقّطة غربي صفاقس، قد تكون اقتصرت على مصاحبتهم وقد تكون تتلمذت عليهم وهذا هو الأرجح رغم أن خطاب المناقب يشدّد على أنّ مترجمتنا لم تكن أقل شأنا من الشخصيات الولائية المذكورة وإنما كانت تضاهيها معرفيا وتربويا.فقد كان الدهماني، وهو أستاذها في الطريقة وعنه أخذتها، يقول: ” أصحابي الأول( ومنهم المرابطة أم يحيى) دخلوا من الباب الذي دخلتِ منه وحصل لهم مثلُ ما حصل لي وزيادة “. كما كان كثيرا ما يردد: – داري – ودار أبي علي [ النفطي ] – والمرابطة أم يحيى [ مريم ] – وأولاد الرقيق دار واحدة”. مما يفترض أنه قد كانت لوليتنا ” سياحات” وبالتالي تنقلات برفقة أبي يوسف الدهماني تردّدت فيها على القيروان والمهدية من جهة ومن الوارد جدّا أنها تردّدت على رباطات الساحل ورباط نقطة على أقل تقدير حيث استقر أصدقاؤها أولاد الرقيق ومن هنا اكتسابها للقب ” المرابطة “. ومن المحتمل أيضا أن تكون قد سافرت إلى الجريد حيث كان أبو علي النفطي مرابطا وبالفعل فإن مناقبها تنبئنا بترحالها الدائم وإقبالها اللامتناهي على تعاطي أشق الرياضات الروحية وأعسرها مراسا ممّا مكّنها من الترقي في سلّم الولاية وبلوغ أرقى درجاته حتّى صارت صاحبة أحوال وصاحب الحال في المرجعية الصوفية هو السالك الذي يلي على صعيد المرتبة المعرفية ” صاحب الوقت ” وهو المبتدئ ولم يبلغ بعد مرتبة ” صاحب الأنفاس ” وهو صاحب المرتبة العليا في المعرفة ولكنها وإن لم تبلغ منتهى المعرفة “بالأحوال ” فإنها لم تُلقِ عصا الطلب حتّى أدركت مُنية رغبتها وغُنية طلبها أي الصورة الكاملة للمعرفة الصوفية: كشفا ومشاهدة.5. إمرأة بألف رجل:أفادنا الدبّاغ بأنّ المرابطة أم يحيى التي لا ينفك عن نعتها “بالحرّة” و”الصالحة ” و” المرابطة ” بالإضافة إلى أنها ” كانت… من كبار الأولياء ” ” كانت لها أحوال ومكاشفات ومجاهدات وكرامات “.ومن ثمّة فلعل ما تجسّد في شخصيتها من خصال القدوة المعرفية والروحية قد أكسبها رصيدا من الهيبة جعلها لا تتمتع فقط بإجلال معاصريها وتقديرهم، وقد كانوا كثيري التردد عليها، وإنما أيضا بتبجيل الأجيال اللاحقة وتوقيرها حتّى أنّ أخبار المناقب لا تكتفي بإعلان مضاهاة هذا الأنموذج الولائي النسائي للأنموذج الولائي الذكوري المهيمن وإنما تعلن في إطار مفاضلة طريفة عن تفوقه الامتيازي عليه، فقد جاء على لسان أبي الحسن علي بن أبي القاسم المزوغي (ولدعام776/1375) في فضلها قوله ” الست أم يحيى خير من ألف لحية ” أي إمرأة ليست فقط كألف رجل وإنما هي إمرأة بألف رجل وزيادة. والتشبيه هنا لا ينسحب على الناس العاديين وإنما على الرجال من طراز أبي الحسن المزوغي. علما أنّ صاحب هذه الشهادة قد ” كان من أعيان المحققين والعلماء العارفين ” وكان بدوره ” صاحب كشف وكرامات وأحوال ومقامات”. 6. الأنموذج الولائي النسائي ومجادلة السائد . يلوح أنّ التصوف النسائي لم يكن ليتمتع بإجماع الناس عليه إذ نعلم أنّ مترجمتنا قد كانت مستهدفة من قبل بعض المعترضين ” بالأذى والاستطالة ” إلا أنّ الخبر نفسه يعلمنا أنها كانت تتجاوز مثل هذه الوضعيات بطريقة عجائبية.وبالفعل فإن ما وصلنا من سيرة هذه الولية من أخبار على قلته مُشبع بالعجيب، من ذلك مثلا أنها كانت تتردد أسبوعيا صحبة أبي يوسف الدهماني على تهودا ( غربي بسكرة ) بإقليم الزّاب ‘ الجزائر) لزيارة ضريح عقبة بن نافع، ولكن هذه الأخبار ذاتها تخفف من حدة هذا “التعجيب” في مواضع أخرى وكأنها تلحُّ، حتى متى انفلت عقالها، على أنّ الصيغة الصوفية التي تروج لها تظل في مرجعياتها سنيّة ومن ثمّة فهي شرعية.
السابق بوست
القادم بوست