باب الزنايز: ثقل التاريخ وأعباء الحاضر

0

باب الزنايز: ثقل التاريخ وأعباء الحاضر
د. زهير بن يوسف
باب الزنايز/الجنايز، ليس فقط معلما معماريا داخل النسيج العمراني العتيق لإحدى المدن التونسية الداخلية العريقة، هي مدينة باجة، و إنما هو أيضا علامة زمنية ومجمّع للذاكرة ونقطة تقاطع في المدينة التونسية والمدينة العربية عموما بين ثقل التاريخ وأعباء الحاضر.
هو عيّنة أنموذجية لتقاطع الدوال والمداليل بين الماضي والحاضر، وقيامها على المفارقات.
تروي حكايته الالتقاء المسلكي الممكن داخل النسيج العمراني، ليس فقط بين الحيّز العتيق والحيّز العصري، وإنما بين الحيّز السكني والحيز الروحي والحير الإداري والحيز التجاري، مما يجعل منه، علاوة على أنه شريان المدينة الاقتصادي وقلبها التجاري النابض، نقطة التقاء وعلامة هيكلية ومرجع استدلال على توزيع المجال وعنصرا أساسيا في تكوينه ناهيك أنه فضاء معماري واجتماعي أنموذجي، وهو إلى ذلك نقطة تكثيف للزمن بما هو نواة تختزن ذاكرة المجموعة وتختزلها تتداخل فيها عدة أزمنة ماضيا وحاضرا نقطة تواصل بين أجيالها وتعبير عن المشترك بينها.
وهو بهذا المعنى يعبّر بامتياز عن مفهوم التراث الثقافي غير المادي بالمدلول الذي حددته له اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي اللامادي المصادق عليها بتاريخ 20 جوان 2007، و يصرّ أيّما إصرار على الجانب المعيشي وعلى التعبيرات الثقافية المختلفة للمجموعات والأفراد وعلى الممارسات التي لها دور مهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن ثمّة فهو لا يعبّر فقط عن النشاط الارتجاعي للذاكرة بقدر ما يعبّر عنها وعن إيقاع الحياة وخط سير الإنسان وحركة المجتمع ومفارقات الحاضر: الآن وهنا.
إننا مع ” باب الجنايز”، لسنا إزاء مكان مادي بقدر ما نحن إزاء مكان رمزي، لا يقول بقدر ما يقول، يشفّ ولا يصف، لا ينطق بصريح العبارة بقدر ما يشي بلطيف الإشارة، لا يهتم بالمعنى بقدر ما يهتم بما وراء المعنى، حتى يكون أبلغ في المعنى وآنق للسمع والبصر وأدعى لشعاب الحديث.
لسنا مع ” باب الجنايز” إزاء فضاء تكمن قيمته في أهميته المرجعية معماريا وتاريخيا بقدر ما تكمن في أهميته الإحالية، لسنا إزاء مكان محايد أو أخرس سواء بالنسبة إلى المجموعة المحلية أو بالنسبة إلى أي زائر للمدينة وإنما نحن إزاء نقطة استقطاب وتوزيع تستمد قيمة وجودها من ترسخها في اللاشعور الجمعي وارتباطها بجذور المجموعة الحضارية وعمق المفارقة بينها وبين ممارسة المجموعة اليوم لحياتها.
“باب الجنائز”: مسلك عتيق يحدّث عن حاضر مدينة، وواقع وطن، وأزمة جهات وفئات.
هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدها المعماري الثري عمق المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزاخر وبين مشهد الحاضر الرديء.
حركة الإنسان المار ّ عبر مسلكه وتعابيره تروي تناقضات واسعة بين إيقاع بطيء لحياة رتيبة، مملة، وجنائزية، ترشح بالبؤس والبطالة والعطالة والفقر، في مدينة عائمة فوق ثروات مائية وفلاحية تُحسب لها،
وبين إيقاع زمن سريع تجري أيامه كالطوفان يجرف معه بريق الحياة من وجوه الناس ويقضي على أصالة المكان الذي ينتمون إليه.
” باب الجنايز “: اسم، وهو مثل كل إسم، دالّ، و لكنه ليس دالا عاديا وإنما هو سيّد الدوالّ، بما هو دال على حاضر أزمة مدينة، أزمة المدينة التونسية، أزمة المدينة العربية، وواقع وطن، وأزمة شعب ، أزمةأمّة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.