في الذكرى 46 لرحيله.. الوجوه المريرة لمعاناة فيلسوف الحضارة مالك بن نبي
على خلاف صورة المثقف الوقور الهادئ للمفكر الجزائري مالك بن نبي في “مذكرات شاهد القرن”، تقدم مذكراته الأخرى “العفن” جانبا مريرا من حياة فيلسوف الحضارة، وتصور معاناته الشخصية وكدحه والمؤامرات التي حيكت حوله وخلجات نفسه.
كتب بن نبي (1905-31 أكتوبر/تشرين الأول 1973) مبررا اختياره لهذا العنوان الذي يعبر عن مضمونه، فقال “استهوتني عناوين كثيرة أسِم بأحدها هذا الكتاب، غير أني اخترت عنوانا يلخصها جميعا”.
وتسمح المقارنة بين نصوص مذكرات بن نبي بفهم سياق كتابه، فقد وصف نفسه فيه بأنه ينتمي إلى الجيل السيئ الذي يختم طور التحلل الذي ألم بالحضارة الإسلامية، واختلط فيه نوعان من “العفن” هما: الاستعمار والقابلية للاستعمار، ومع ذلك تنبثق منه بواكير نظام جديد لا يزال الغموض يلفه.
خذلان
ووصف بن نبي في كتابه شعوره بالخذلان المرير وتجربة تعرضه للسجن، مستحضرا شعوره في ليلة رمضانية عندما نظر إلى الشباك وقال “وا أسفاه لم تتحرك أي نجمة من نجوم السماء وتهرع لنجدتي”، وحكى عن معاناته وزوجته الفرنسية في توفير لقمة العيش ومصاريف العائلة والدواء وزيارة الطبيب، بعدما “أغلق الاستعمار كل سبل العمل أمامي حتى كمستخدم أجير أو كعامل بسيط”.
وحكى بن نبي عن سنواته في دراسة الهندسة، وعن الغرفة الصغيرة التي استأجرها في الطابق السادس بالعاصمة باريس وقامت زوجته الفرنسية “بأعمال الخياطة والتثبيت والصيانة والفراش والتسوية وإعداد حياة سعيدة في غرفتنا الوحيدة”، لتحولها إلى غرفة مرتبة بعد قيامها “بأشغال الدهان والفراش والخياطة والنجار والبستاني، بأحسن الأذواق”.
وحكى بن نبي عن بداية اهتماماته الفكرية المبكرة في سهرات تناقش فيها مع صديقه محمد بن ساعي مسألة “الفقر الخلقي والفكري المرعب للعالم الإسلامي أمام عالم غربي له روح أوروبية وتقنية ديكارتية”.
واعتبر بن نبي أنه وأصدقاءه كانوا المسلمين الوحيدين الذين كانوا يتناقشوا في مثل هذه القضايا آنذاك، “فحتى العلماء -أي المسلمين الأقرب منا- كانوا بعيدين عن النظر إلى الأشياء بعمق، فكان جوهر المأساة الدنيوية غائبا عنهم تماما”، منتقدا سعيهم للتغيير “بوسائل البلاغة العربية فقط” بينما المشكلة الإنسانية لم تغيير “حتى في معطياتها الآنية والبديهية كالجهل والمجاعة”.
المستشرق الخصم
وناقش بن نبي في “العفن” تجربته المريرة مع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي انتبه له منذ قدومه لفرنسا طالبا، ورأى الفرنسي المقرب من الإدارة الاستعمارية فيه خصما واجهه بحيل ناعمة وخشنة، بما في ذلك محاولة استمالته ثم إيذائه بشتى السبل، بما في ذلك فصل أبيه من عمله والتضييق على عائلته في معيشتها، وحتى التدخل لمنعه من السفر إلى السعودية للعمل فيها.
ويقدم “العفن” صورة مختلفة عن المستشرق الفرنسي الذي رأى فيه المفكر الجزائري تعصبا دينيا ومشروعا استعماريا خطرا يهدف لزرع الفرقة بين الجزائريين والمغاربة وعرب الشمال الأفريقي، منتقدا المثقفين العرب المعجبين به.
واشتهر ماسينيون بدراسة الصوفي الشهير الحلاج وحقق كتابه “الطواسين”، واتهم بالجاسوسية من قبل السلطات العثمانية، وعمل مستشارا لوزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وكان الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وتولى تحرير “مجلة الدراسات الإسلامية” وأصدر “حوليات العالم الإسلامي” منتصف القرن الماضي.
وانخرط بن نبي في نشاط فكري وسياسي مبكر بين المغتربين في فرنسا، وكان عنوان أول محاضرة يلقيها هناك “لماذا نحن مسلمون؟” وذلك في أواخر ديسمبر/كانون الأول 1931، وقد استجوبته الشرطة الفرنسية على إثرها.
اعلان
ركز جهده في مجالي فكر النهضة والدراسات القرآنية، وقدم في الأول إسهامات بارزة لتجديد الفكر الإسلامي المعاصر، حيث أكد أن أزمة المجتمع المسلم هي أزمة منهجية عملية بالأساس، وبناء على ذلك صاغ نظريته في التغيير الاجتماعي على أساس مبدأ الفاعلية والتصدي لما سماه القابلية للاستعمار والحذر من داء الاستكانة والهوان.
أغنى بن نبي الفكر الإسلامي بمصطلحات عديدة في حديثه عن “الأفكار الميتة” و”الأفكار المميتة” والعلاقة بينهما وعن مراحل تطور الحضارة الإسلامية وغير ذلك.
المؤلفات والآثار
ولمالك بن نبي سجل حافل بالعطاء الفكري، إذا ألف أكثر من ثلاثين كتابا منها “مشكلة الثقافة” عام 1956 و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” عام 1960 و”الفكرة الأفروآسيوية” عام 1956 و”الكومنولث الإسلامي” عام 1960.
ومن أشهر كتبه “الظاهرة القرآنية” و”وجهة العالم الإسلامي” و”شروط النهضة” و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”.
نشر له بعد وفاته كتابان: الأول “دور المسلم ورسالته في القرن العشرين” عام 1977، والثاني “بين الرشاد والتيه” عام 1978، و ترجم الدكتور عبد الصبور شاهين عددا من كتبه الصادرة بالفرنسية إلى اللغة العربية.
المصدر : الجزيرة