نورالدين الغيلوفي كاتب تونسي
“تلك فتنة قد عصم الله منها سيوفنا، فلنعصم منها ألسنتنا”…
“تلك دماء قد طَهّر الله منها يَدِي، فلا أخْضِبُ بها لساني”…
“الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”…
أنا ليس لديّ مشكلة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. هو حاكم عربيّ جاء بانقلاب عسكريّ في سياق تاريخيّ معيّن كانت تحكمه توازنات سياسية أخرى غير توازنات لحظتنا…
للرجل ما له وعليه ما عليه.. ولديه أنصار أحترمهم وخصوم أتفهّمهم.. الرجل مات رحمه الله.. وليس من المقبول أن يظلّ حاجزا يفصل بين ضفّتي الأمّة وقد أمضى عمره في الكدح لتحقيق وحدتها وجمع مياهها.. وأظنّ أنّ من الخيانة له أن نسير عكس ما ظلّ يحلم به من توحيد الأمّة العربيّة حتّى توفّاه الله.. ولا يظنّ عاقل أنّ التوحيد يُطلب بين المتماثلين.. وليس من مصلحة أحد ما نراه بين الإسلاميين والقوميين من هراش هو أقرب إلى هراش الصبيان بعد أن فوّض لهم الشعب أمرَه بعد رحلة التيه الطويلة…
نحن، في دول المغرب العربيّ لم نتورّط في انقلابات عسكرية، كتلك التي شهدتها دول المشرق، تسببت في عداوات تاريخية بين المنظومات العسكرية واستتباعاتها وبين فئات المجتمع النشيطة من سياسيين ومثقَّفين وأهل فكر وأصحاب رأي.. ونتجت عنها أمراض مزمنة تسبّبت في ما تعانيه الأمّة، اليوم، من حرائق لا تنطفىء…
ولكنّنا لم ننج من حصاد عداوات لم نزرعها.. لم يحكمنا نظام عسكريّ ولم تنشأ في بلادنا جماعة اسمها جماعة الإخوان المسلمين كانت له معها، ومع غيرها، معارك سياسية مستمرّة هي من بين الأسباب التي منعت ولادة الديمقراطية في مصر المحروسة وحالت دون نهضتها وعطّلت تطوّرها…
نحن في تونس لم نعرف “الإخوان المسلمين” وإن نشأت في البلاد حركة إسلامية تأثّرت في بدء نشأتها بهم ونسجت على منوالهم في بعض أدبياتها دون أن تتورّط في معاركهم مع خصومهم.. وتفصلها عنهم مسافة لا تقلّ عن تلك التي تفصل تونس عن القاهرة و 2019 عن 1954 .. كما أنّنا لم نعرف الحكم العسكري ولا اكتوينا بنيرانه ولا رضعنا ألبان عداواته. ولكنّ روح العداوة بين الطرفين انتقلت إلينا عبر ما نرى من استئناف العراك بين التيّارين: الإسلامي والقومي.. فهل هذا من العقل في شيء؟
قامت الثورة في تونس وكان في حسباننا أن تزيل الهندسات الذهنية القديمة لنقيم لنا معًا هندسة سياسية جديدة توافق اللحظة وتقطع مع القديم وتستجيب لأشواق الشعب لأجل نهضة يستفيد منها جميع المتضرّرين من منظومة الاستبداد دون استثناء.. نهضة تزيل ما كنّا فيه من هَوان نتيجة عداوات غريزية ركيكة مستنسَخة من جغرافيا مغايرة ومن تاريخ مختلف، لا حضور للعقل فيها ذهبت بريح الأمّة وجعلتها تكتفي بالفرجة على التاريخ يمضي دونها.. نهضة قاعدتها ” تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم”…
غير أنّنا، جميعنا، في السرّ والعلن، أصررنا على مضغ القديم واجترار العداوات واستئناف التصابي والوقوف عند أطلال فاجعة لا معنى للوقوف عندها ولا للبكاء.. وبدل أن نرعى أسباب التوحيد ونغضّ الطرْف عمّا يفرّق ولا يجمع انشغلنا بالنفخ في نيران التدابر ورجوم التُّهَم، وعوض مدّ البصر بعيدا لتحصيل النور حبسناه في كهوف مظلمة ومنعنا أعيننا من أن ترى من الجديد شيئا…
استقبلت قيادة حركة الشعب قيادة حركة النهضة في عقر دارها في سياق ما نحن فيه من ترتيب البيت التونسي بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة.. وبدل أن يُكرم المضيف وفادة ضيفه ويخفض له جناح القيم العربية الأصيلة دبّر له ما يشبه المكيدة في ما يذكّرنا بما كانت تفعله أجهزة المخابرات داخل أوكارها ورسمت قيادة حركة الشعب للضيفين صورة اشتغلت بعد ذلك باستعمالها للغمز في ما لا يدين الضيف بقدر ما يفسد صورة صاحب البيت…
نشرت صفحة الحزب الرسمية الصورة وأعقبتها بتعليق: “أجمل شيء في الصورة أنّ الإخوان جالسين(هكذا)تحت صورة الزعيم) !!!
هل يُعقَل، وأنت تستعدّ للإيفاء بتعهّداتك لناخبيك وتعدّ نفسك لخدمة البلاد وإنقاذ العباد، أن تستقبل مخالفيك بمثل هذا التفكير الصبياني؟
هل تحاور مخالفيك بحثا عن المشتَرك معهم أم أنت تبحث عن سبل للإيقاع بهم وأنت قابع عند استيهامات لا توجد خارج رأسك؟
أهكذا يكون الكرم العربيّ؟
هل بمثل هذا تستقبلون ضيوفكم؟
ها جاءكم راشد الغنّوشي وعلي العريّض للتحاور معكم قصد تقريب وجهات النظر والخروج بالبلاد من مأزقها أم دعوتموهما لتلتقطوا لهما صورة تعلوها صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بنيّة تنقض قيمة الكرم؟
هل ترون للغنوشي والعريض مع عبد الناصر مشكلة؟
أبمثل هذا العبث تقوم السياسة وتنهض البلاد؟
اعقلوا يهديكم ربّي.. وكفى تصابيا…
فنحن في لحظة لم تعد تقبل بعبث الصبيان.
نورالدين الغيلوفي كاتب تونسي